آذر نفيسي تستعيد ماضي أميركا العنصري
الجسرة الثقافية الالكترونية
مازن معروف
قبل سنوات، أعادت الولايات المتحدة الأميركية نبش إرث الكاتب الأميركي ذي الأصول الأفريقية جيمس بالدوين. خطوة قد تكون غير بريئة تماماً من قرار الإدارة الرسمية الأميركية. خصوصاً أن أوباما هو أول أفريقي يصل إلى سدّة الرئاسة. بالدوين، مؤلف «غرفة جيوفاني»، «الاحتجاج ضد الجميع»، «النار في المرة القادمة» و«ملاحظات ابن البلد»، كان قد رفض أن ينصاع إلى دعوات البيض العنصرية بوجوب مغادرة السود أميركا والعودة إلى أفريقيا. كانت تلك الدعوات محملة بالكراهية والخبث والمرارة، إلا أن أخطر ما فيها كان عزيمة عرق إلى نفي عرق آخر ودفعه إلى الانعزال. وهنا تكمن استراتيجية بالدوين الاجتماعية- والتي هوجم بسببها- في ما بعد على يد الموجة الجديدة من الأميركيين الأفارقة.
في كتابها الأخاذ «جمهورية الخيال – أميركا في ثلاثة كتب» (دار الجمل، ترجمة علي عبد الأمير صالح)، تقف آذر نفيسي على المكوّن النفسي والتربوي والسياسي لأميركا من خلال علاقتها ككاتبة وأكاديمية بثلاثة كتب هي «هكلبري فن» (مارك توين) و»بابيت» (سنكلير لويس) و»القلب صياد وحيد» (كارسون مكولرز). العبودية إحدى أحجار الكتاب الأساسية.
صوت شخصي وروائي
غير أن نفيسي، تتطرق إلى عمق الخصوصية الأميركية، كنظام سياسي داخلي خاص، ماسحة تاريخ أميركا لفترة تمتد أكثر من مئة عام إلى الوراء. لا تركب صاحبة «أن تقرأ لوليتا في طهران» مؤلفها على مقاس البحث النظري بإطاره الرتيب. فالصفحات تتوزع بين صوتها الشخصي وكيانها الروائي. تتداخل ذكرياتها بين إيران وأميركا بانطباعاتها عن هذه الكتب الثلاثة وغيرها، ما يرفع من العمل إنسانياً، ويبرز ذاتيته الفذة أيضاً.
كان بالدوين دعا الأفارقة في مناظراته وكتاباته إلى رفض الانصياع إلى تلك الدعوات المميِّزة والعازلة، وأن يتقدموا خطوة باتجاه الانصهار والانفتاح، بوصفهم مواطنين أميركيين لا أفارقة، أي تقديم درس إنساني يكون أكثر تسامحاً وسمواً. وبالتالي فإنه لم يتبنّ موقف العرق الأبيض، «المضطهِد». وكان يتطلع إلى أميركا، إلى حبّها. هو الذي قال عنها في سياق أراده أن يكون بمثابة تعريف عامّ «حب الوطن هو أن تساند حكومتك حين تستحق ذلك».
كانت إشكاليته مع نوع تلك الـ»أميركا» التي ستكون لاحقاً بعد أن تتحقق «المساواة» بين السود والبيض. هكذا أجابه روبرت كينيدي: «بعد ثلاثين سنة ستكون رئيساً للجمهورية»، في إشارة إلى احتمال تولي أميركي أفريقي سدة الرئاسة في البيت الأبيض.
بالدوين، الآتي من جدٍّ «عبد»، والذي لم يستطع أن يعرف مَن أبيه البيولوجي، كان شغوفاً بمحاولة تخمين الصورة التي ستكون عليها أميركا على المستوى الاجتماعي والثقافي والمعرفي والتعليمي. هو الذي لم يحظ بتعليم جيد في صغره، أراد أن ينبش في الآثار الأدبية المشجعة لهذا التمييز بين السود والبيض. أما مثليته الجنسية فشكلت نوعاً ما مشكلة لمحيطه. إنه كاتب انطلق من داخل صورة العبد، النمطية، ليصعق أميركا ببيضها وسودها. ذلك أنه تعرض إلى سيلٍ من الانتقادات بسبب اجتهاداته الفكرية حول تطوير العلاقة مع الأبيض ومحاربة الكراهية.
فريسة الكراهية
كان يُقلقـــه أن يقع فريسة الكراهية التي كانت تنمو وتتطور في داخله بسبب الدعوات إلى إنهـــاء الســود كـ«حالة» اجتماعية شاذة. يروي أنه فـــي أحـد الأيام، دخل وصديق له إلى مطعم في نيويـــورك لتناول الغداء فاقتربت النـادلة منهما قائلة «نحن لا نخدم الزنوج»، فغـــادر بولدوين وصـــديقه متجهين إلى مطعم آخــــر ليتكرر الموقف عـــلى لسان نادلة أخرى بدت خائفة قليلاً. ثارت ثائرة بالدوين الذي رمى النادلة بكوب الماء وهشم لوح المرآة خلف البار. إلا أن الحادثة كانت إيذاناً للكاتب بأن حياته في خطر، وأن الخطـــر لا يكمن في احتمال تعرضه للقتل بسبب احتجاجه على عنصرية البيض، وإنما أن يرتكب حماقة ما بفعل الكراهية التي تعتمل في نفسه، فتودي به في السجن أو الإعدام.
يتصل بالدوين، في موقفه الاحتجاجي بصوتٍ من يُعتَبر مؤسس للأدب الأميركي الحديث. إنه مارك توين الذي بدوره استنكر العبودية وأبدى قرفه منها وأدانها إدانته للعقلية الاجتماعية الأميركية السائدة في ذلك الوقت، بعد أن خبر في طفولته معاملة محيطه العائلي القاسية للعبيد السود. العبد الذي كان في بيت توين كان ممنوعاً من القراءة والكتابة بل وحتى البكاء. وبشكل عام، فقد كان من الأفضل أن لا تعطى الفرصة لأي عبد لكي يبكي أو يتأمل أو يفكر. فهذا قد يؤثر إيجابياً في وعيه وعزيمته، الأمر الذي لم يتناسب وسلطة السيد الأبيض.
كتب توين «مغامرات هكلبري فن» التي قال عنها همنغواي لاحقاً بأنها الرواية المؤسسة للعقلية الأميركية الحديثة في الأدب. وهو ما يلعب عليه وودي آلن في فيلمه «منتصف ليل في باريس» بحيث يقول الكاتب المغمور والمُتَخيَّل «جيل بندر» لهمنغواي الشاب الجملة نفسها عندما يقابله أول مرة في إحدى الحانات.
المصدر: الحياة