رحيل إيمري كيرتيش.. سامَحَ الهولوكست ولم يسامح رام الله

الجسرة الثقافية الالكترونية

اسكندر حبش

تحتار فعلاً في كيفية «التعاطي» مع الكاتب المجري إيمري كيرتيش (حائز «نوبل للآداب» العام 2002) الذي غيّبه الموت نهار أمس الخميس عن 86 عاماً. الحيرة نابعة بالطبع من ذاك الحيّز الذي غالباً ما يدفعنا إلى التساؤل عن المواقف السياسية لأي كاتب (أكنّا معه أم ضده) وعن أدبه، وبخاصة حين يكون هذا الأدب على قدر كبير من المتانة والجودة، بحيث لا يمكن التغاضي عنهما.
إيمري كيرتيش مثال كبير لهذا السؤال. فحين حاز نوبل للآداب، تمحور بيان اللجنة الملكية السويدية حول «النزعة الإنسانية» في أدبه، وبخاصة عن تجربته في مخيمات الاعتقال النازي، فهو أحد «الناجين من الهولوكست». وبالرغم من هذه التجربة الحياتية والإنسانية والثقافية الكبيرة التي تعرّض لها، تجده يكتب قبل أشهر من «جائزة نوبل»، مقالة يتحدث فيها عن سروره لرؤيته الدبابات الإسرائيلية وهي تدخل «رام الله». يقول إنه أحسّ بالسعادة لأن نجمة داوود كانت واضحة على الدبابات و «ليست خبيئة في صدورنا كما خلال الفترة النازية». مقالته هذه كانت تسجيلاً لرحلة قام بها الى الأراضي المحتلة. هناك «أحسّ بيهوديته للمرة الأولى»، وهو الذي لم يعِشها حتى في أحلك أيام الحرب العالمية الثانية. أضف الى ذلك كله، نجده يصل الى خلاصة مفادها أن كل مَن ينتقد الدولة العبرية هو أكثر من معادٍ للسامية.
في أي حال، قليلون اليوم من يتذكرون هذا الموقف. ربما لأن الأدب هو الباقي في نهاية المطاف، وحين نستعيد الحديث عنه لا بدّ ان تطالعك مقولة أن أدبه ما هو «إلا استعادة لتلك المأساة الإنسانية» بدءاً من «أوشفيتز» وانتهاء بما تعرّض له بسبب معارضته للنظام الشيوعي في المجر.

سيرة
ولد كيرتيش في 9 تشرين الأول من العام 1929 في بودابست لعائلة يهودية. كان في الخامسة عشرة من عمره حين أرسل «معتقل أوشفيتز بيركينو». وأطلق سراحه العام 1945 في «بوخنفالد». في البداية، كسب كيرتيش قوته اليومي، عبر عمله في الصحافة. إلا أن الصحيفة التي كان يعمل بها سرعان ما أعلنت عن نفسها بأنها الناطقة باسم الحزب الشيوعي، ليُسرّح منها العام 1951. بدءاً من العام 1953، بدأ يعتاش من الكتابة، إذ كتب بعض الكوميديات الموسيقية كما بعض «المسرحيات الخفيفة». وبعد ذلك بـ 15 عاماً، بدأ بالعمل على مخطوط «كائن بدون مصير» ـ (ترجم إلى العربية بعنوان «لا مصير»، عن دار المدى) ـ الذي لم ينته منه إلا بعد عشر سنوات، ليخرج من بين يديه أحد الأعمال المهمة والموسومة عن الهولوكوست، بالأحرى رائعة أدبية وإنسانية. بعد نشره روايته هذه عمل كمترجم، لينقل إلى اللغة المجرية أعمال نيتشه وفرويد والياس كانيتي وفيتغنشتاين وجوزيف روث وآخرين.
جاءت «كائن بدون مصير» لتكون أولى رواياته الكبرى، لكن تمّ تجاهلها في المجر ولم يُعِرْها أحد اهتمامه، بل أكثر من ذلك: لم يُعترف به على أنه كاتب إلا بعد صدور الطبعة الثانية منها العام 1985. في أي حال، ربما كان كيرتيش ينتظر «سقوط جدار برلين» وانحسار الحكم الاشتراكي عن أوروبا الشرقية، ليهتم به المشهد الأدبي ويجعله كاتباً كبيراً ولتحظى روايته بالشهرة وتترجم إلى العديد من اللغات الأوروبية في تسعينيات القرن الماضي، لتعتبر أحد أهم الأعمال في الأدب الأوروبي للقرن العشرين».

ضد السيرة
يبدو كيرتيش، في مجمل أعماله، وكأنه كاتب يكتب ضد سيرته الذاتية، وذلك كي لا يعيشها مرتين، كي يخترع لنفسه قدَراً ثانياً غير قدره المتمثل في كونه شاهداً على مخيمات الاعتقال، لهذا يبدو أدبه يهرب من كل تحديد للإحساس بالضحية، على الرغم من أنه هو نفسه، يحدد هذه الحياة عبر سلسلة من التواريخ المفاتيح: «وُلدت في بودابست العام 1929 وأنتمي إلى جيل تتميز حياته بتواريخ عدة هي 1944 و1945 و1948 و1953 و1956»، أي تاريخ ترحيله إلى «أوشفيتز» ومن ثم الى «زيت» بالقرب من «بوخنفالد»، كما إطلاق سراحه، بالاضافة إلى سيطرة السوفيات على الحكم في المجر والمحاكم الستالينية والتمرّد المجري عليها..

الهولوكوست
لا يبدي الكاتب أي رغبة في أن يخضع لقدرية الناجين أي استرجاع رعب المخيمات التي وقعوا أسرها. صحيح أن جميع موضوعات كتبه ترتكز على هذه «التيمة»، إلا أنه يقوم بذلك على طريقته الخاصة، حاملاً نظرته الواضحة، المدهوشة، العائدة لذلك الطفل الذي كانه ذات يوم. من هنا يبدو الأمر وكأنه بمثابة لامبالاة وبراءة وغياب «للباتوس» (عملية التفخيم) والحكم الأخلاقي، حاملاً على كتفيه «خفة العبء» مثلما يقول في «كائن بدون مصير» التي تروي سيرة مراهق في الخامسة عشرة من عمره منذ لحظة اعتقاله وحتى تحريره، أي يروي سيرته في مخيمات الاعتقال ومن ثم مخيمات العمل التي تُفقد المرء إنسانيته، إذ لا بُعد أمامه «سوى بُعد النمل» ولا أفق أمامه «سوى أفق الكلاب».
أسئلة كثيرة كانت تعبر رأس الفتى لتتناغم مع «الجو الثقافي» الذي كان سائداً في ذلك المكان وتلك الفترة، وهو الجو الذي أنجبته «التوتاليتارية النازية». في روايته هذه يذهب كيرتيش إلى المأساة بشكل مباشر، إذ كان على الفتى أن يتكيّف مع الوضع. لكي ينقذ حياته ويتحوّل إلى آلة تنفيذ من دون طرح الكثير من الأسئلة. من هنا، ثمة سؤال لا بدّ أن يطرح نفسه، لماذا أزعجت رواية عن الحياة اليومية في المعتقلات النازية، إلى هذه الدرجة، الناشرين في المجر الشيوعية؟ ربما لأن القراء في تلك الفترة كانوا يجدون في ذلك الوصف المباشر للتوتاليتارية، علاقة ما بسيرورة الآلة الشيوعية التي كانت تنزع بدورها، إنسانيتهم عنهم. فكما قال كيرتيش، العام 1996، في حديثه مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية: «ما كنت استطعت كتابة هذا الكتاب لو لم أعش الستالينية. حينذاك فقط، شعرت أنني أصبحت ناضجاً لكي أكتب عن أوشفيتز. أعرف إلى أي مدى تستطيع سلطة قاسية أن تغيّر البشر».

سعادة المعتقلات
على الرغم من ذلك كله، وبشكل مخالف، يجد هذا الكائن الذي أصبح بدون مصير الحاجة إلى «السعادة» التي ينتظرها: «لأنه هناك أيضاً، وبين المداخن ومسافات الألم، كان هناك شيء يشبه السعادة… ربما هذا الشعور وحده هو الذي يبقى عالقاً في الذاكرة». قد تكون «سعادة المعتقلات» الشيء الطبيعي الذي يستحوذ على الرعب اليومي. من هنا، تكمن قوة كيرتيش في إعادة تركيب «السعادة» خطوة خطوة، وبشكل هادئ، في راهنيتها كما في بطئها. فتفاؤل السجين الساذج الذي يصل في البداية كزائر، كما اجتياح الألم له وانهياره التدريجي، بالإضافة إلى مصانع الموت، لهي أشياء طبيعية، مثلما يقول. «لا تقولوا إن أوشفيتز أمر لا يُفسَّر»، يكتب كيريتش «ما لا يُفسر هو الخير لا الشرّ».
أوشفيتز أيضاً حاضر في روايته «قديش (قداس) للطفل الذي لن يولد»، حيث مناخ النجاة والعودة إلى البلاد ليعيش داخل قضبانها التوتاليتارية. من هنا نجده يصارع داخل جدران هذا المأزق، من دون أن يستردّ أنفاسه، كما لو أنه كان يصارع الموت ليطرحه أرضاً. صراع «بارد» يصيب باليأس الجنوني. من هنا، يبدو مشروع الكاتب المجري في روايته هذه، مشروعاً باعثاً على الدوار، كما أن المونولوغ هذا يحتدم وفق صورته. إنه هذا الرجل المبحر مثله في قافلة والذي يخاطر بحياته ليجلب له حصته الصغيرة من الطعام. فالمنطق والعقلانية كانا يفترضان ألا يقوم بذلك.
تكمن «قوة» الحكاية دائماً عند كيرتيش، في ما وراء المسار الذي ترسمه، وفي ما وراء الخلاصة التي تقترحها. تكمن في النفحة نفسها، في حالة الحمّى التي تعتريها، كما في هذا الواقع الذي تبحر فيه. ربما لهذا عرف كيف يتخلص من مصائره كلها، ليكتب المصير الذي رغب فيه: الكتابة..

المصدر:السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى