بلاغة النص الصوفي بين سلطة الرمز ورغبة التواصل قراءة في “التشوف إلى رجال التصوف”* لابن الزيات التادلي

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

 

د. محمد المسعودي

 

لا يغيب عن النص الصوفي نزوع المتصوف/الكاتب إلى التواصل مع المتلقي. إن الآخر يظل نصب عيني كل كاتب خط بقلم سواء أكان ما يكتبه عن وعي وعن سابق ترصد وإصرار، أم كان نصه إلهاما يملى عليه آناء الليل وأطراف النهار. ومن ثم، فإن النص الصوفي، وهو يحمل رسالته إلى القارئ بغية التواصل معه، يستعمل سلطة الرمز وبلاغة الإشارة قصد الإفادة، ورغبة في مخاطبة الذهن وإثارة الوجدان.
هكذا تقتضي قراءة النص الصوفي أن تقف عند أبعاد التواصل في هذا الخطاب عبر تشكلاتها المباشرة وغير المباشرة؛ عبر العبارة والإشارة معا. ومن الأكيد أن بلاغة النص الصوفي تصنع مقومات جمالها وأسس فنونها الخاصة بها، بطرق مقصورة عليها تتخذ سماتها من الموضوعات التي تشغل الصوفي، ومن الأنواع الكتابية التي يجعلها مطية إلى إيصال أحاسيسه ورؤاه وأفكاره.
ونحن في قراءتنا بعض نصوص ابن الزيات التادلي سنقف عند المكونات الجمالية والسمات الفنية التي تشكل بلاغة التواصل الصوفي في كتاب “التشوف إلى رجال التصوف”.
مما لا شك فيه أن الدارس يحار في غنى وتنوع الكتاب من حيث مادته، ومن حيث أنواع الكتابة النثرية الصوفية التي يوظفها، إذ ينطوي هذا السفر الضخم على التعريف النظري، والتراجم، وسرد الرؤى والأخبار، ورواية الأشعار…وغيرها من أشكال التعبير والكتابة، وعبر هذه الأنواع الكتابية المختلفة يوصل رسالته، ويحقق تواصله مع متلقيه. ولا شك أن هذا المتلقي المفترض سيكون، بدوره، متعددا ومختلفا، منه من سيحاول التعرف على معنى التصوف وجذوره في الخطاب الإسلامي، ومنه من سيسعى إلى الوقوف على تراجم متصوفة المغرب في الفترة التاريخية التي يؤرخ لها ابن الزيات، ومنه من ستستهويه أخبار هؤلاء المتصوفة وكراماتهم ورؤاهم، ومنه من سيركز على أخبار أبي العباس السبتي وكراماته. ولعل مستويات التلقي هذه هي التي تمنح هذا المتن المغربي حضوره المميز في تاريخ الكتابة الصوفية المغربية.
ونظرا إلى صعوبة دراسة كل الكتاب، في هذا السياق، فإن هذه القراءة ستقتصر على نصوص تمثل بعض هذه الأنواع الكتابية الصوفية قصد إبراز منطلق مبحث “سلطة الرمز ورغبة التواصل”، هذا المبحث الذي يكشف توزع النص الصوفي بين سلطة الرمز في أبعادها التجريدية/الغامضة، والرغبة في التواصل التي تقتضي الوضوح والإفهام. ولعل هذا الشد والإرخاء، والعسر واليسر في الخطاب الصوفي؛ هما السر وراء ما تثيره بلاغة النص الصوفي لدى المتلقي من رغبة في التأويل والتخييل، وفي مدى المتعة التي يستشعرها أثناء تلقيه لهذا النمط من الكتابة الأدبية الفريدة في التراث العربي. وهذه القراءة ستطرح أسئلة وقضايا تتصل بالتواصل في النص الصوفي دون ادعائها القدرة على الإجابة عنها جميعا. فما تشكلات بلاغة التواصل في النص الصوفي؟ وكيف يوظف الإمكانات اللغوية والصيغ الأسلوبية لتحقيق قسمات البلاغة الصوفية؟ وكيف يحول الصوفي “سلطة الرمز” إلى طاقة بلاغية تواصلية؟
ننطلق في البداية من نص وصفي لابن الزيات يؤكد فيه مفهومه للصوفي الذي يشمل:« أفاضل العلماء والفقهاء والعباد والزهاد والورعين وغير ذلك من ضروب أهل الفضل؛ فإن اسم الصوفي يصدق على جميعهم بوضع هذا الاسم عند المحققين. فإن كثيرا من الناس لم يحصلوا حقيقة اشتقاقه. والذي يعول عليه أن الصوفي هو المنقطع بهمته إلى الله تعالى، المتصرف في طاعته»./ص34
يكشف هذا النص التعريفي عن فهم واسع لكلمة الصوفي الذي يشمل كل أهل الفضل الذين نص عليهم ابن الزيات، وفي نفس الآن يحدد سمة تسم كل هؤلاء تتمثل في الانقطاع بالهمة إلى الله تعالى. ولعل هذا النص التعريفي الدال يجرنا إلى النص الأول الذي سنشتغل به في هذه القراءة.
يقول ابن الزيات في نصه مطورا الأبعاد الوصفية للنموذج الصوفي:
« وصفْنا طريق الصالحين وفعلَهمْ وما حظُّنا إلا التزين بالوصف
أترى خلت الأرض منهم أم لا تراهم؟ كلا! لو صفت أعمالنا عرفناهم. أما الأحياء منهم فالقطر يجري من جراهم. وأما أمواتهم فمعنا في الأخبار معناهم. وإن كان لك انتقاد، عرفتهم بسيماهم، لباسهم ما ستر وطعامهم ما حضر، ذلوا ليرضى. فإذا رأيت القوم، قلتَ مرضى. لله درهم من أقوام! قطعوا أعمارهم في طلبه وأتعبوا أعضاءهم في فرضه وواجبه. وقطعوا قواطعهم لأجل التعلق به. وحلموا عن الجهال خوفا من غضبه. فقدموا القيامة بقلوب تشتاقه وأقدام تسعى في طلبه. فإذا مروا على النار قالت: جز يا مؤمن قد أطفى نورك لهبي. وإذا رأت النار من جهر بالخير وما خافَتَ خافتْ. وإذا شهدت نفوسا طالما ضاقت ضاقت. وإذا عاينت أجساما باينت الحرام وعافت عافت. هلا تشبهت، يا هذا، بهؤلاء القوم؟ هلا تنبهت من ذلك الرقاد والنوم؟
ومن العجائب أن تكون كما أرى وتظن نفسَك فائزا مقبــولا
كيف السبـــيل إلى نعيم آجل في حق من لم يستقم في الأولى
فواها لقوم هجروا لذيذ المنام وأنصبوا لما نصبوا الأقدام وانتصبوا للنصب في الظلام، يطلبون نصيبا من الأنعام. إذا جن الليل سهروا. وإذا جاء النهار اعتبروا. وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا، وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا. وأقبلوا بالقلوب على مقلبها وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها وسلموها إذ باعوها إلى صاحبها وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها. وسهروا الليالي كأنهم وكلوا برعي كواكبها. ونادوا أنفسهم: صبرا على نار البلاء لمن كواك بها، ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها واشتاقوا لقاء حبهم فاستطالوا مدة المقام بها»/ص.38-39.
يشترط ابن الزيات لمعرفة هذه الزمرة من الناس- التي صلُحت وتميزت عن الخلق- أن يتميز المتلقي المهتم بأخبارها، بدوره، بصفاء الأعمال وإخلاصها لله. وبذلك يضع الكاتب أول لبنة من لبنات تلقي النص الصوفي. إن من يرغب في معرفة حقيقة الصوفي وأخباره وكراماته عليه أن يتسم بصفاء العمل وشدة اليقين. فالأحياء منهم يجري القطر/العطاء والخصب والنماء من جراهم/جرايتهم، أما الأموات منهم فإن أخبارهم تجلي معناهم وتدل على تفردهم وصلاحهم. ثم يبين ابن الزيات كيف يعرف المتلقي هؤلاء القوم من خلال إشارات دالة عليهم تجعلهم رؤيا العين بحيث لا تخطئهم الأبصار. إن بلاغة النص، هنا، تنتقل من الخطاب العام، ومن الاستنكار على أولئك الذين يزعمون أن مثل هؤلاء الفضلاء قد انقرضوا لتبين بالعبارة والإشارة معا سمات القوم: إنهم أناس انقطعوا لله وأفنوا عمرهم في فرضه وواجباته، وحلموا على الجهال من الناس طمعا في رضاه. واشياقا إلى لقياه وهم في صفاء روح ونقاء. هذا وكدُهم في دار الفناء. فماذا عن دار البقاء؟
هنا تتم النقلة الهامة في النص الصوفي الذي يجمع في بلاغته بين الحديث عن الدنيا والآخرة. وعن حال الصوفي في الدارين. إن بلاغة التواصل تقتضي هذا التراوح بين العالمين قصد تحبيب المتلقي في الاقتداء بالقوم والسير على نهجهم. وإلا لماذا يصوغ الصوفي/ الكاتب خطابه ويتعب نفسه في صياغة نصه صياغة مخصوصة؟
بهذه الشاكلة يصور ابن الزيات إقبال الصوفي في لهفة وشوق إلى لقاء حبيبه بأقدام مسرعة ولهى. فإذا مر على النار انطفأ لهيبها من شدة نور الصوفي. وفي هذا السياق يوظف ابن الزيات الجناس اللفظي لتنمية جمالية الصورة التي يرسم بها واقع الصوفي في العالم الآخر، عالم الحق. إن النار تُصور في سمت شخص عاقل مدرِك يخاف ويضيق ويعاف. وهذه الحالات التي تُصور بها تعود إلى أنها تعرف حقيقة الصوفي الذي يجتازها: إنه كائن متفرد جاهرَ بالخير، وضاقت نفسه به من شدة خشيته لله كما ضاقت به الدنيا، وباين الحرام فعافه، ولذلك خافت النار منه، وضاقت بنوره، وعافت جسده السقيم الذي أفناه في طاعة مولاه. إن هذا التشخيص للنار يمنح بلاغة النص الصوفي بعدا دلاليا لا تعزب عنه الرغبة في التواصل وإيضاح المرامي الصوفية الثاوية وراء الخطاب. خاصة أن هذا البناء الفني يذكر القارئ بالنص القرآني الذي شخص النار في أكثر من سورة من سور القرآن الكريم. ولعل هذه النقلة السريعة والالتفاتة البارعة في نص ابن الزيات كانت ضرورة بلاغية تواصلية ليشكل من خلالها المقصدية التي يسعى إليها. هذه المقصدية التي تعد بؤرة النص الصوفي، ومن ثم يلتفت إلى المتلقي قائلا:
« هلا تشبهت، يا هذا، بهؤلاء القوم؟ هلا تنبهت من ذلك الرقاد والنوم؟
ومن العجائب أن تكون كما أرى وتظن نفسَك فائزا مقبــولا
كيف السبـــيل إلى نعيم آجل في حق من لم يستقم في الأولى»
هكذا يجمع ابن الزيات في هذا المقطع بين الاستفهام والنداء والطلب، وبين بلاغة النثر والشعر. وبين العتاب واللوم، وبين الترهيب والإغراء. وهذه السمات البلاغية التعبيرية هي التي تمنح النص الصوفي نوعا من الحيوية والحركية تحررانه من سلطة الرمز الإشاري المغلق إلى رحابة التواصل الإنساني العميق. وعن طريق الالتفات البلاغي الذي ينتقل من الحديث عن سمات الصوفية إلى مخاطبة المتلقي مباشرة، وعن طريق الالتفات من الإخبار إلى الإنشاء، والتنويع في الصيغ البلاغية والسمات الفنية يخلق النص الصوفي نوعا من التشويق الأسلوبي الذي يستهوي القارئ ويجعله قابلا لعبة الكتابة الصوفية. وعند هذا القبول والتسليم يعود، ابن الزيات، في دهاء ومكر إلى رصد سمات الصوفي مستعملا، هذه المرة، التكرار والاستطراد إلى جانب أدوات التصوير البيانية لتنمية صورة الصوفي وترسيخ ملامحها في ذهن المتلقي ووجدانه. وفي هذا الموقع يستعمل صيغا تعبيرية ترمي إلى التأثير في نفسية القارئ وذهنه، مثل التعجب والتلاعب اللفظي(بوساطة الجناس والتكرار) والشرط…وغيرها من الأساليب البلاغية التي ترمي إلى الإقناع والتأثير. يقول ابن الزيات:«فواها لقوم هجروا لذيذ المنام وأنصبوا لما نصبوا الأقدام وانتصبوا للنصب في الظلام، يطلبون نصيبا من الأنعام».
يستثمر هذا النصُ بلاغة الجناس والتكرار الصوتي لتحديد سمات الصورة التي يود ترسيخها لدى المتلقي عن الصوفي. إنه من هجر لذيذ المنام، ونصب أقدامه نصبا ورهقا، وانتصب واقفا في حلكة الليل يطلب نصيبه من أنعام الآخرة التي حَرم نفسه منها في دنياه. بهذه الكيفية يصور الصوفي الكاتب/المؤرخ صورة الصوفي النموذج، وعبر الطاقات البيانية المتنوعة(المجاز والكناية والاستعارة..) في ارتباطها بالجناس والتكرار يستطيع تجاوز سلطة الرمز الإشاري إلى تحقيق التواصل مع المتلقي. وهذه البنية البلاغية في منحاها الوصفي يدعمها السرد في بعض نصوص الكتاب بحيث تصير رواية أخبار هؤلاء المتصوفة ركنا من أركان الكشف عن حقيقة ارتباطهم بالله ومحبتهم له. يقول ابن الزيات في النص نفسه ساردا تفاصيل أخرى عن القوم: «إذا جن الليل سهروا. وإذا جاء النهار اعتبروا. وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا، وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا. وأقبلوا بالقلوب على مقلبها وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها وسلموها إذ باعوها إلى صاحبها وأُحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها. وسهروا الليالي كأنهم وُكِّلوا برعي كواكبها».
يوظف هذا المقطع- من النص المشتغل به- مزيدا من طاقات البلاغة توظيفا رحبا يرسم من خلالها صورة الصوفي التي أجملها في البداية. يعود ابن الزيات إلى تصوير سهر المتصوفة ليلا في العبادة والقربى، والخلود إلى الاعتبار نهارا، مع الاستغفار والتفكر في الذنب والبكاء والانكسار للخالق والإقبال عليه بقلوبهم والتسليم له وبيعهم أنفسهم فداء محبته. وفي هذا الحيز تتضافر عناصر الشرط والمقابلة والطباق والسجع والجناس مع عناصر التصوير البيانية لتقديم استطرادات وتنويعات أخرى ترسخ الصورة الذهنية عن الصوفي المثال. وقد أسهمت مختلف الإمكانات التصويرية اللغوية/البلاغية في تحديد الدلالة وجعل القارئ يتمثل ذهنيا حقيقة الصوفي كما يسعى الصوفية إلى إيصالها. وإلى هذه المقصدية يرمي ابن الزيات حينما يصرح قائلا: «المقصود إيراد عجائب أخبارهم لعل الله أن ينفع بها »/ص.38.
وبذلك تقرن بلاغة النص الصوفي بين المتعة الفنية والفائدة المعرفية والسلوكية عن طريق تحديد المقصدية الواضحة في الخطاب الصوفي: تحفيز الآخر على القدوة والسير على نهج القوم الذين صلحوا، وهذا الخطاب يوجه إلى من يهمه أمر المتصوفة ويعنى بشأنهم. ومن ثم تعد المقصدية من جوهر بلاغة النص الصوفي الذي يضع نصب عينيه التواصل والتأثير والإقناع كأساس لتشكيل الخطاب.
ومن خلال كل ما سبق نرى أن هذا النص الصوفي الهام في وصف الصوفية وتحديد سماتهم قد وظف إمكانات بلاغية تجمع بين العبارة والإشارة وتوظف مختلف الطاقات الفنية والبلاغية المتاحة لصياغة النص وتحقيق مقصديته التواصلية التي لا تخفى عن القارئ كما حاولنا أن نبين. وبهذا وجب الإعلام والسلام.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى