“حكايات كوندوروشكين”: أدب الرحلة و”كليشيهات” الإستشراق

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

معمر عطوي

جميلة هي “حكايات كوندوروشكين” والأجمل من ذلك ترجمتها التي لا يبدو أنها تخون النص الأصلي إلاّ من حيث استخدام المحسنات البديعية على يد كاتب فنان برع في صياغة القصة كما في كتابة المقال الصحافي.
الزميل عماد الدين رائف الذي نقل القصة الى العربية بعيون روسية، ونشر مجموعة قصص مترجمة في 220 صفحة، لم يلعب فقط دور المترجم أو صائغ الحكايات بتعبير عربي مجبول بثقافة سلافية، بل كان الباحث الذي حقق في أعمال الكاتب الروسي ابن عائلة الفلاحين ستيبان كوندوروشكين، المبتعث الى جنوب لبنان نهاية القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين بهدف التعليم.
عمل الصحافي رائف كان عملاً مجهداً، إذ لم يكن بين يديه مجموعة قصص جاهزة باللغة الروسية لينقلها الى العربية، بل هو بحث عن قصص تتعلق بحياة الأستاذ الروسي في لبنان، وخصوصاً في جنوبه، فتحقق من صحة وجوده في منطقة راشيا الفخار القريبة من الحدود مع سوريا وفلسطين، ولاحق حكاياته بذهنية مقارنة بين الواقع قبل أكثر من قرن ونيف، وبين ما كتبه كوندوروشكين كحصاد لغربته في الشرق العربي.
هذه الأحداث تدور ضمن حدود الجمهورية اللبنانية، أو لبنان الكبير بحدوده الحالية، لكنها دارت أيام كوندوروشكين، ضمن ثلاث وحدات إدارية عثمانية هي متصرفية جبل لبنان وولاية دمشق (التي كانت تضم راشيا وحاصبيا والبقاعين الغربي والشمالي)، وولاية بيروت التي كانت تضم المدن الساحلية طرابلس وصيدا وصور، بحسب ما يوضح رائف.
لذلك يمكن تسمية كتاب رائف بالعمل البحثي أكثر من كونه مجرد ترجمة.
لكن المترجم الباحث كان أميناً لمضمون النص الأصلي فلم يغيّر في جوهره وأحداثه وربما شخصياته، بل نقلها كما هي من دون أن ينجرّ الى نقد أو تجميل مغالطات استشراقية وقع بها الكاتب الروسي أو تعمدها، في حديثه عن الأقلية الأرثوذكسية و”ظلم” المسلمين” لها، لاسيما حين تناول قصة إبن قرية شبعا ذات الغالبية المسلمة في سفوح جبل الشيخ، “أبو المراجل” المسيحي شاهين هدلا. فالحديث عن ظلم رعايا الكنيسة الأرثوذكسية في شبعا قد يكون مجانباً للصواب خصوصاً ان هذه الأقلية لا تزال تسكن القرية، حتى اليوم، ولم يرد رغم مرور الأحداث المفصلية اللبنانية والحرب الأهلية عنها اي إشكالية وقعت على أساس طائفي. بل على العكس تعرض الأرثوذكس عبر التاريخ، لأبشع أنواع القمع والتنكيل والحرق على أيدي الصليبيين الكاثوليك، في حين أن وجودهم وبقاء كنائسهم وحريتهم في التعبد تشهد على دحض هذه “الكليشيهات” الإستشراقية في مغازلة الطائفة الأرثوذكسية أو مسيحيي الشرق عبر شيطنة الأكثرية المسلمة.
وربما يصب هذا التركيز على وضع مسيحيي شبعا في مصلحة اظهار موسكو الحامية للمسيحيين وخصوصاً رعايا الكنائس الشرقية. ذهنية تشبه إعلان الاستعمار الغربي “حماية” أقليات أخرى في الشرق كذريعة للسيطرة وايجاد موطن قدم له.
في أي حال، فإن “الإشارة العربية الوحيدة الى كوندوروشكين، لعلها ما ذكره الباحث ممدوح أبو الويّ عن أن مكتبة تولستوي تحفظ كتاباً بعنوان قصص سورية لكاتبه كوندوروشكين كناشط سياسي واجتماعي، وككاتب صحافي لا حزبي يدعو الى اللاحزبية، في العقد الثاني من القرن الماضي عندما وصل تركز الأيديولوجيا إلى الذروة، ضمنت ان يغيب أي اثر له طيلة العهد السوفياتي”، بحسب ما جاء في تقديم المترجم.
لقد دارت أحداث قصص المفتش التربوي كوندوروشكين في مرحلة تلت التحاق الكاتب الروسي بـ”الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية”وارساله للخدمة في سوريا في الرابع والشعرين من آب سنة 1888.
لعل حكايات كوندوروشكين الممتعة، والمرفقة بصور نادرة، هي نوع من أدب الرحلة يعيد تسليط الضوء على علاقة تاريخية بين قرى أو طوائف لبنانية وبين إرساليات أجنبية من نوع آخر، مختلفة عن إرساليات الكنائس الغربية الى الشرق.
وفي أي حال، تؤرخ هذه الحكايات والاقصوصات مرحلة مهمة من تاريخ جنوب لبنان، تتجاوز مسألة الإرساليات الروسية الى محاولة تصوير الواقع الريفي اللبناني بتلاوينه المتعددة وفي مناطق مختلفة بعيون سلافية تمحصت جيداً الجانب الإنساني على هذه الضفة من العالم.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى