«نار العشق» للإيرانية نهال تجدد.. دين الحب

الجسرة الثقافية الالكترونية

عبير أسبر

لمْ تكن اهتمامات «نهال تجدد» الروائية، تسكن دوماً في المنافي وعلى الحدود الشفيفة للهويات المتداخلة. فبعد روايتها «جواز سفر» التي ناقشت، فكرة العودة من فرنسا إلى بلدها الأم، وما نتج عن تلك العودة من آلام وتناقضات وأسئلة طارئة، نراها في روايتها «الرومي، نار العشق» (]) تضع ذاتها كاملة في دنيا موازية، في العالم الآخر، اللامرئي، حيث لا شيء يهــــم إلا الروح المحلّقة، المرفرفة فوق المعاني، وعلى حــوافها، حيث قباب الصــوفية، والارتحالات مع دورانات راقصي جلسات «السماع» الابتهالية.
الروائية الايرانية «نهال تجدد» التي درست الصينية وحصلت على الدكتوراه لترجمتها وتحقيقها نص عن المانوية، ظلت تحمل رغبتها بالكتابة عن جلال الدين الرومي سنوات طويلة، تخللتها ولادة وموت وانقطاعات حياتية ونفسية، حتى وصّلت «تجدد» أخيرا مولودها، وكانت الجملة التي ساندتها لانهاء عملها والصبر عليه، جملة هائلة الرمزية، شكلت مفتاحاً ملائماً لقراءة النص كاملاً، فانتهت الرواية عندما «تحول الدم إلى حليب» وهو شطر من «المثنوي» آخر ما ألف الرومي، وأنهى به حياته وشعره أيضاً.
لمَ جلال الدين الرومي، لمَ الصوفية؟
قد تبدو أجوبة التسويق والبيع، و «البروباغاندا»، والاستشراق، أجوبة سهلة حول اختيار نهال تجدد، أو حتى أليف شافاق، الكتابة عن الصوفية. لكن حتى تلك الاستفسارات المشروعة لا إجابات سهلة لها، فنهال تجدد وأليف شافاق تأتيان من إيران و تركيا، من بلدين تنفسا الصوفية، وتغللت في شِعرهما، ورقصهما، وفلسفتهما. من هنا كأن الكاتبتين تحملان مسؤولية أخلاقية وجمالية تبغي تبرئة وجه الاسلام العطوف الحالم، والتارك لمباهج الكون، واغراءاته الأرضية. لهذا قد تبدو هذه المسؤولية مفتاحاً ملائما للإجابة.
قال ابن عربي «سأبحث عن دين الحب أينما كان» وفي كتاب «الرومي، نار العشق» هذا ما يفعله جلال الدين الرومي، الشاب الثري، وريث العلم والورع، المتنعم ليس فقط بالنسب، والسلطان، بل أيضا باحترام محيطه من طلبة وملوك، ورجال دين وتقوى، لكن كله سيتعرض للمساءلة والتهديد والانهيار، عندما يلتقي بقرينه، بصورته المنعكسة في جسد انسان آخر، كله سيتعرض لرياح وأمطار وعواصف الشك، وسوء الفهم، والاضطهاد، والخسارة لمباهج الدنيا، عندما سيلتقيه، هو ذاته «شمس التبريزي» نبي بلا أتباع، الشخص، الروح، البشري الذي اختار الصعلكة، والخمر، والتخلي، والفقر، والعري الجسدي والروحي، العري من قذارات التملك والاقتناء وثقل الرغبات، اختار الحرية كي لا يكون مديناً لأحد إلا للمعنى، والفرح، ولروح الأشياء. سيلتقي الرجلان، كما تلتقي الأفلاك عند وقوع «حدث كوني». سيُفتن جلال الدين الرومي بشمس التبريزي، المتنور بنور إلهي، الممتلئ بضوء ليس من هذا العالم، الباحث عن روح الله، وانعكاسها في أصغر مخلوقات الرب، وعند اللقاء سيختليان أربعين يوماً، بعيداً عن كل الغوايات، بعيداً عن الطعام والنساء والمباهج، فيتحدا ويتّبعا دين الحب، حب الرجال للرجال، للشجر، للهواء، الحب للعناصر الأولى، للرقص والدوران بعكس عقارب الساعة لضبط إيقاع الحياة، وإيجاد باب الحياة الأبدية، يأخذان من الاسلام بابا ليلجا جنة الرب الموعودة، ليترفعا عن مهاترات المُلْك والقيمة والثروات، ويصلا إلى عمق المعاني، إلى حقيقتها، ويدركا انقسام هذا الوجود على ظاهر وباطن، على حقيقة ووهم، على شغف لا يبتغي إلا الذوبان بنعمة الحب، ونقيضه الحب الممسوس، الغيور، الكاره والمتسلط. ويصطرع النقيضان، وتسير الرواية إلى نهاياتها، ومع تلك الشخصيات الآسرة سنصل الامتلاء، ثم التخلي والفقد، عندما يترك الرومي كالعشيق المخاتل، يترك شمس التبريزي لمصيره، يتركه ليذهب، وليختبر هو وجع الفقد، وأحساسيس الترك وآلام الهجران والاحتراق، كأنما الكتاب مرثية للصداقة والعشق في حالاتها الأنقى، فيمر في حياة الرومي بشر كثيرون، ثلاثة رجال (عشاق)، شمس التبريزي، صلاح الدين، حسام الدين، زوجة، ابن، وزوجة ابن، يصطرعون على حبه وصحبته، ونَفسه القدسي، الذي يشربه ويمتصه راوي الكتاب حسام الدين، الذي صبر سنوات وهو منتظر على أعتاب غرفة الرومي، أعطاه وقتاً كي يلتفت إليه، ويأتمنه على أجمل أبياته، وآخر تلك الأبيات «المثنوي» النص الذي يجب أن يُحكى عنه، وتنسج حوله الروايات. قال حسام الدين الذي شارك الرومي نهاياته كلها، موته حتى! «الرومي، نار العشق» كما صرحت نهال تجدد، ليست رواية سيرة ذاتية، وليست مختلقة بالكامل، هي نتاج مزاج كتابي شغوف ورؤوي، يعتمد الدقة بالمقولات والأشعار ويتبع نبض القلب عند التنبأ واستشفاف النوايا، الرواية نتاج قلب محب، لم ينسَ ما فتنه مرة، فلم يستطع النجاة.

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى