أيمن بكر: لا وجود للتراث خارج وعينا

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد الحمامصي

يرى د. أيمن بكر في كتابه “قالت أميمة.. تأملات في التراث” الصادر أخيرا عن دار العين أن التراث الإنساني بمختلف تصنيفاته ساحة تأمل مفتوحة، إنه مادة تأويل وتحليل تدور حولها وبها صراعات كثيرة في لحظتنا التاريخية الراهنة.

ويضيف “غير أن هناك مغالطات ساذجة استقرت واتفقت عليها القوى التي تتصارع مستخدمة سلاح التراث، وأهمها الإدعاء بأن التراث في المجالات المختلفة وجودا موضوعيا خارج عمليات فهم الناطقين به وتحلييلاتهم وتأويلاتهم، وأن ما يقدمه كل طرف هو جوهر التراث الموضوعي وحقيقته الثابتة.

ورغم أن الاختلافات بين المتصارعين حول التراث وبه تهدم فكرة الوجود الموضوعي لمواد التراث، كما تكشف خرافة وجود حقيقة نهائية ثابتة في فهم تلك المواد، لم يزل التواطؤ بين الجميع قائما، كما لم يزل كل فريق يرفع صوته إن جهلا أو غفلة بفكرة امتلاك الحقيقة”.

وعلى النقيض مما سبق يقوم الكتاب وفقا للدكتور أيمن بكر على فكرة أن التراث هو ما نفهمه من مواده، وأن لا وجود للتراث خارج وعينا، أو خارج طرائق تحليلنا وشروط وجودنا التاريخية / الثقافية، وهي الطرائق والشروط التي تحدد المعنى الذي نستقر عليه في لحظة تاريخية بعينها لمواد التراث التي تخضع في كثير من الدراسات لعمليات معقدة من التوجيه والاستخدام تصل إلى حد التشويه.

ويؤكد د. أيمن بكر أن ما تشهده الثقافة العربية الآن يمثل ذروة استثنائية في التلاعب غير العلمي بمواد التراث في مختلف مناحيه، وأخص التراثين الديني والمجتمعي على ما بينهما من تداخل واستخدام تلك المواد وقودا لحرب طائفية عنصرية خطيرة، وهو ما يكشف عن أن إعادة النظر في مواد التراث، والدعوة التي يدعمها هذا الكتاب لمزيد من الحرية في تأمل تلك المواد لا يعنيان ممارسة تأويل مفرط صادر عن مواقف أيديولوجية مسبقة، بل تتصل إعادة النظر الحرة مباشرة بالتزام معرفي وأخلاقي، وباختيار طرائق التحليل العلمي، التي تتناسب ومحاولة إنتاج وعي مغاير ببعض مواد التراث.

وتعد مقالات الكتاب نتاجا مباشرا لحالة لعب مستمتع بمواد التراث المختارة سواء في قراءتها أو تحليلها وهو لعب يرجو المؤلف “أن يكون قد احتفظ بالدهشة الطفولية التي صاحبت الكتابة”.

والكتاب يسعى أيضا إلى لتقديم مواد طريفة وممتعة من التراث بتبسيط يسعى لتوسيع دائرة القراء، بجذب تلك الجماعة التي تقع بين المثقف المتخصص والشخص اللاهي غير المهتم.

يقول د. أيمن بكر “في التراث العربي قصص مدهشة عن موت الأعلام، فجلّهم تحدث له قبل الموت أو بعده أشياء يمكن أن تدخل ضمن العجائبي. ولعل أحد أسباب ذلك هو دخول هؤلاء الأعلام في دوائر اجتماعية/ سياسية متشابكة لا يسلم من دخلها من آثار الفتن والمؤامرات “خاصة في العصرين الأموي والعباسي”.

كما يفسر تلك القصص العجيبة عن موت الشعراء والكتاب أيضا أن الثقافة التي يعيش فيها الشخص المبدع تتخذ منه موقفا بعينه، ينعكس هذا الموقف في صورة قصص تحاك حول إبداعه وحول بعض تفاصيل حياته، وحول موته أيضا، بحيث يمكننا القول إن الثقافة تمارس تأويلاتها على كتابات المبدع وعلى سيرته في آن.

والنموذجان اللذان سأعرِّج عليهما هو ما حيك عن موت بديع الزمان الهمذاني “358 – 398 هـ” صاحب المقامات الشهيرة، وكذلك المتنبي “303 – 354 هـ” شاعر العربية الأشهر.

موت بديع الزمان: انتقام ثقافي

بديع الزمان الهمذاني: أحمد بن حسين بن يحيى بن سعيد “358 ـ 398 هـ”. أثارت شخصيته ردود أفعال مختلفة بين معاصريه وقرائه، فهو أول من صاغ البناء الفني للمقامة والذي ظل المبدعون ينسجون على منواله لما يقترب من عشرة قرون بعد بديع الزمان.

والمقامة هي سرد قصير له بناء مكرور يبدأ بجملة ثابتة هي: حدثنا عيسى بن هشام قال: …، ثم إن عيسى – هذا الراوي المتخيل الذي يتسلم عملية الرواية من صاحب الجملة السابقة – ينطلق في سرد قصة تدور في الأغلب الأعم من المقامات حول بطل من نوع خاص؛ إذ هو أديب لا يبارى وشاعر مبدع، لكنه في الوقت نفسه شحاذ لا يجد قوت يومه.

وبين حدي هذه المفارقة تولدت لدى بطل المقامات نقمة على الزمن وأهله لم يفلح في إطفائها أحد. بل امتدت النقمة في كل أبطال المقامات بعد بديع الزمان وقد حملوا الصفات نفسها، كما نجد في شخصية “أبي زيد السروجي” بطل مقامات الحريري.

وبعيدا عن المقامات، كان لبديع الزمان ديوان شعر وعدد كبير من الرسائل الأدبية التي تفيض بفنون البلاغة وأنواع الترسل. عاش الهمذاني حياة صاخبة مليئة بالحركة والتفاعل والإبداع والتناحر أيضا. وقصة مناظرته مع أبي بكر الخوارزمي مشهورة.

كان من المعروف عن بديع الزمان أنه “فتى وضيّ الطلعة رضيّ العشرة، فتّان المشاهدة سحار المفاتحة، غاية في الظرف آية في اللطف…” إلى غير ذلك مما يتردد في وصف كثير من أعلام العرب.

ويمكن الرجوع لأوصاف بديع الزمان في وفيات الأعيان؛ إذ كان يوصف أيضا بأنه سليط اللسان، مرّ العداوة. ومن يرجع لرسائله يكتشف كيف كان بديع الزمان يستخدم قدراته العقلية والبلاغية كسيف مسلط على رقاب من يختلف معهم؛ محولا الاختلاف العادي إلى جرح غائر. فإن اقترض منه صديق مبلغا من المال ولم يلتزم بموعد السداد، حول بديع الزمان الأمر إلى فضيحة اجتماعية لمن استدان، منتجا نصا أدبيا في السب والهجاء النثري الجارح. يضاف إلى ذلك أنه كان يعتد بذاته اعتدادا زائدا يصل حد الغرور.

وقصة موت بديع الزمان من أعجب ما روي عن وفيات الأعلام، فهي أقرب إلى انتقام حاكته بعد موته الثقافةُ التي عرفته هجاءً سليط اللسان مر العداوة. ترد قصة موت بديع الزمان في وفيات الأعيان على لسان شخص يدعى الحاكم أبو سعيد بن عبدالرحمن (وهو نفسه من جمع رسائل بديع الزمان) كالآتي:

“وسمعت الثقات يحكون أنه مات من السكتة، وعجل دفنه، فأفاق في قبره وسمع صوته بالليل، وأنه نبش عنه فوجدوه وقد قبض على لحيته ومات من هول القبر”.

بحسب القصة، لم يمت بديع الزمان، وإنما دخل فيما يشبه الغيبوبة القصيرة، لكن القوم ظنوا أنه مات وعجلوا بدفنه، ثم إنه أفاق من غيبوبته ليجد نفسه في القبر. وبحسب القصة أيضا، يبدو أن بعض الناس سمع ضجيجا يأتي من ناحية القبر ليلا، فلما فتحوه على الهمذاني في صباح اليوم التالي، وجدوه جالسا في أكفانه ممسكا بلحيته وقد مات من هول المفاجأة.

يمكننا ببساطة أن نصدق القصة السابقة بوصفها حدثت رغم غرابتها، ويمكننا أيضا أن نرى فيها موقفا ثقافيا من شخص الهمذاني؛ إذ ربما لم يستطع الكثيرون ممن عاصروا بديع الزمان أن ينتقموا من تطاوله عليهم، خاصة وقد كان دوما قريب الاتصال بأصحاب النفوذ، فقرروا أن يمارسوا انتقامهم بعد موته، وأظن هذا الانتقام قد بدأ من فكرة “التعجيل بالدفن” غير المبرر، إلا أن يشير إلى رغبة في التخلص من هذا الشخص، وبما يخدم أيضا هذا الخطأ الدرامي الذي أدى إلى موته في النهاية. ثم إن طريقة الموت المفزعة التي تعرض لها تصل بنا لقمة الانتقام، فكيف الحال بشخص ينام في سريره مرتديا ثوب نومه المعتاد، ثم يفيق فإذا هو لابس كفنا ويرقد تحت التراب في قبر مظلم؟

ليس في قصة موت بديع الزمان نسيج سردي أسطوري كالذي نجده في موت امرؤ القيس أو طرفة بن العبد مثلا، إذ يتشكل موته خبرا قصيرا مملوءا بشحنة فزع يشفق المرء منها على أعدائه. ويبدو أن هذه القصة، التي لم يرد ما يثبت صحتها، هي مجرد تذكير بالجانب العدواني في شخصية بديع الزمان، وانتقام من هذا الجانب ليس في حياته ولكن بعد موته.

القصة الأخرى دارت حول موت شاعر العربية الأشهر “أبو الطيب المتنبي”، حيث تساءل المؤلف: هل قتل بيتُ الشعر صاحبه؟ وقال “عاش المتنبي في حلب حلم البطولة في شخص سيف الدولة، ونال من المكانة ما لم يتمتع به أحد لدى أمير حلب بمن في ذلك ابن عمه الشاعر الأمير “أبو فراس الحمداني”.

كان المتنبي مشهورا بالكبرياء الذي يصل حد الصلف أحيانا. ولعل هذا الكبرياء هو ما دعاه أن يضع شرطين لوفادته على سيف الدولة من البداية: الشرط الأول ألا يكلفه سيف الدولة تقبيل الأرض بين يديه، والثاني ألا يقول الشعر واقفا على عادة الشعراء أمام الأمراء والملوك. زرعت موافقة سيف الدولة على شرطي المتنبي بذرة الغيرة في قلوب الخاصة المقربين من الأمير، كأبي فراس الحمداني وابن خالويه النحوي وغيرهما.

افتخر المتنبي بقدراته كثيرا، وكانت موهبته الشعرية هي مركز فخره، تليها فروسيته التي اكتسب جل مهاراتها خلال فترة إقامته مع سيف الدولة. وصل اعتداد المتنبي بنفسه حدودا تفوق احتمال من يختلف معهم تحديدا، حتى لقد ادعى المتنبي أمام سيف الدولة أنه خير الأنام:

سَيعلمُ الجَمعُ ممن ضمّ مَجلسُنا ** بأنَّني خيرُ من تَسعى به قدمُ

وطبيعي أن يجد من يعترض عليه خاصة في حضور الأمير. ويبدو أن المتنبي كان قد أعد العدة لهذا الاعتراض المنطقي المتوقع فأرجع تفوقه على العالمين إلى قدرته الأدبية حصرا حين يقول بعد البيت السابق مباشرة:

أنا الذي نظرَ الأعمَى إلى أَدَبي ** وأسمعتْ كلماتي من به صممُ

أنامُ ملءَ جفوني عن شَوارِدِها ** ويَسْهر الخلق جرّاها ويختصمُ

هذا إن لم تكن الدراما التي حيكت عن القصيدة وسياقِ قولها، وما حدث أثناءها هي خيال صاغته الثقافة بعد خروج المتنبي من حلب وانتشار القصيدة. وفي الأحوال جميعها أحسب أن اعتداد المتنبي بشعره أولا وبفروسيته وأخلاقه ثانيا قد منحه طاقة، تجلت في شعره، من الفخار والجرأة على الخصوم. وذلك ما جعله لا يقف عند حد إذا خاصم.

ولعل موت المتنبي أن يكون نتيجة مباشرة لاعتداده الزائد بذاته، ما جعله لا يشعر بأي تهديد من أي كائن على وجه البسيطة.

يروى عن موته أنه في طريق عودته من عند عضد الدولة في شيراز نزل بلدة “واسط” عند صديقه أبي نصر الجبلي. ومما يروى أن فاتك الأسدي (قاتل المتنبي) كان قد نزل بأبي نصر هذا قبل وصول المتنبي، وأخذ يسأل عن أخباره مظهرا الشر، ويحكي الدكتور طه حسين كيف أن أبا نصر حاول أن يثني فاتك عن نيته تجاه المتنبي لكنه فشل في ذلك .

ولعل السبب في هذا العداء أن المتنبي كان قد هجا ابن أخت فاتك واسمه “ضبة القرمطي” أثناء نزوله بالكوفة، وهو ما دعا فاتك للسعى وراء المتنبي ثأرا لعرض ابن أخته. وتقول المرويات إن أبا نصر الجبلي حاول إقناع المتنبي باتخاذ حراسة له في طريقه إلى بغداد، لكن الأخير لم يقبل، متحصنا بثقته الشديدة في مكانته وفي فروسيته. قصة موت المتنبي إذن تبدأ من قلب فخاره واعتداده المبالغ فيهما بذاته وقدراته.

هناك من يذهب إلى أن فاتك ربما دفعه الطمع في أموال المتنبي الكثيرة، التي يعلم الجميع أنه يسافر بها جميعا أينما ذهب، أو لعل كافور الإخشيدي هو من تآمر مع فاتك، إذ يبدو أن المتنبي كان كلما أغاظه شيء صب غضبه على كافور. والبعض يذهب إلى أن سيف الدولة نفسه ربما يكون هو من أرسل في طلب رأس المتنبي بعد أن بدأ المتنبي التعريض به في بعض قصائده، ومنها قوله في مدح ابن العميد:

من مبلغُ الأعرابَ أني بعدهــا ** جالستُ رِسْطَاليسَ والإسكنـدرا

ومللتُ نحرَ عِشارها فأضافني ** من ينحرُ البِدَرَ النَضَار لمن قَرى

يقول الدكتور طه حسين تعليقا على هذه الأبيات إن: “الأعراب هنا هم سيف الدولة وأصحابه في شمال الشام”. ولعل هذا أن يكون دافعا لسيف الدولة كي يرسل في طلب المتنبي خشية أن يصل بهجائه إلى ما يشبه كافورياته الشهيرة. أراد كثيرون إذن الموت للمتنبي طبقا للسرد الشيق الذي حيك حول حياته، وهنا تأتي حادثة موته لتمثل ختاما دراميا مناسبا لهذه الروايات المثيرة التي تصف خصومات المتنبي ومعاركه.

يحكى أن فاتك الأسدي هاجم المتنبي بسبعين رجلا ولم يكن مع المتنبي سوى أبنائه وغلمانه، فدار بين الطرفين قتال كاد أن ينتهي بهزيمة المتنبي وقتله، فلما أيقن المتنبي من الهلاك حاول الفرار من المعركة، لكن أحد غلمانه يصرخ فيه، أتهرب وأنت القائل:

فالخيل (الخيلُ) والليلُ والبيداءُ تعرفني

والضربُ (والسيفُ) والطعنُ (والرمحُ) والقِرطَاسُ والقلمُ

فيعود المتنبي للمعركة مطلقا جملة تحتاجها الحبكة السردية لتصل إلى ذروتها، حين قال للغلام: “قتلتني قتلك الله”، ثم ينتهي المشهد السردي بموت المتنبي على يد فاتك الأسدي.

وهكذا ينصبُّ اللوم التاريخي على بيت الشعر؛ ليقول المؤرخون الذين أخذوا القصة على علاتها إنه “البيت الذي قتل صاحبه”. ويبدو لنا أنه البيت الذي احتاجه المشهد السردي الخيالي، ليشعل ما عرفته الثقافة عن المتنبي من عظيم فخار بذاته واعتداد بكلمته وبفروسيته.

إنها نهاية درامية خيالية لحياة صاخبة احتاجت، كي يكتمل تشويقها، لمشهد ختامي يلعب بيت المتنبي الشهير دور البطولة فيه، فتمت صياغة مشهد لا نعرف على وجه التحديد: من الذي نقله لنا إذا كان كل أبطاله قد قتلوا فيه؟

تمثل محاولة المتنبي الهرب في ذاتها ما يشبه الموقف الساخر من فخره الشخصي المبالغ فيه، وخصوصا ما يتصل بشجاعته وقدرته على الضرب والطعان، ثم تركز عودته بعد ذلك على ما عرف عنه من أنه وفيٌّ لا يخون وأنه لم يكذب قط، وهو ما أرادت الثقافة في هذه القصة أن تطبقه على شعره، فهو وفي لكلمته صادق في التزامه بها وإن كان الثمن موته.

القصة إذن أقرب لذروة سردية، تمثل ختاما لحياة الشاعر الصاخبة التي صنعت مساحة تأويل واسعة في الثقافة العربية. وأحسب أن بإمكاننا استجلاء الصور الثقافية التي كانت سائدة عن كثير من الأعلام في تراثنا أثناء حيواتهم، عبر تحليل القصص التي حيكت عن موتهم.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى