« العصابة THE CLAN» لـ بابلو ترابيرو: فيلم أرجنتيني يستدعي سنوات الرعب في ظل حكم العسكر

الجسرة الثقافية الالكترونية

عماد الدين عبد الرازق

في أحد أحياء العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس تعيش عائلة نموذجية من الطبقة المتوسطة. رب العائلة «أرخميديس بوتشيو» (غولليرمو فرانسيلا)، يكاد يكون صورة للأب المثالي الذي يكرس حياته كاملا من أجل رعاية ورفاهية أسرته.
يستيقظ في الصباح الباكر ليفتح مطعم العائلة الصغير لبيع الوجبات السريعة الجاهزة، يحمل المكنسة لينظف واجهة المتجر ويعده لاستقبال الزبائن. في المنزل يشرع في إصدار أوامره لأفراد الأسرة وتوزيع المهام المنزلية عليهم، من قبيل مساعدة الأم في إعداد الوجبات، وغسل الصحون، وتنظيف المنزل. حين تجتمع الأسرة على مائدة الأفطار أو العشاء، يستهلها الأب بالصلاة للرب شكرا على النعم والخيرات التي منَّ بها على العائلة. الزوجة «إيبفانيا» ( ليللي بوبوفيتش) بدورها نموذج مثالي للأمومة، تجمع بين العمل كمدرسة، وربة منزل، وطاهية ماهرة تعد الوجبات لمطعم العائلة، وزوجة مطيعة متفانية في حب زوجها.
الأبن الأكبر «أليخاندرو» ( بيتر لانزاني) شاب متعلم وناجح ونجم لامع يشتهر باسم «الكس» في الفريق القومي لكرة القدم (الأمريكية). قبل أن نتعرف على أفراد عائلة «بوتشيو»، يفتتح فيلم المخرج بابلو ترابيرو بمشهد رئيس جديد للبلاد يلقي بيانا يزف فيه إلى الشعب نهاية عصر الديكتاتورية بسقوط حكم العسكر بقيادة «خورخيه رافاييل فيدلا»، وانتخاب حكومة ديمقراطية، في أعقاب نهاية حرب «الفوكلاند» عام 1981، التي تلقت فيها الأرجنتين هزيمة على يد بريطانيا. يلي ذلك مباشرة مشهد اقتحام الشرطة منزل آل بوتشيو والقبض على جميع أفراد الأسرة بمن فيهم نجم كرة القدم اللامع «ألكس». ما بين المشهدين الذي يفصل بينهما عامان، يعود بنا الفيلم إلى عالم عائلة «بوتشيو» الحميم فنرى الأب المتفاني «أرخميديس» بساعد ابنته الصغرى في تحصيل دروسها، و«ألكس» يغسل الصحون في المطبخ بعد طعام العشاء، والأم تستحث الأبنة الكبرى «سيلفيا» (جيزيل موتا) على تنظيف المائدة قبل الذهاب للفراش. عائلة متماسكة في منتهى الانضباط يظللها الحب والتفاني، خمسة أبناء وبنات مجتهدون وناجحون.
سرعان ما نكتشف أن هذه اللوحة الأسرية الجميلة، رغم أن كل تفاصيلها حقيقية، إلا أنها تخفي وراءها صورة أخرى مرعبة تماما تتشكل معالمها تدريجيا. نرى «ألكس» في سيارة صديقه الثري ورفيقه في فريق كرة القدم «ريكاردو»، يتعرضان لعملية خطف بواسطة رجال مقنعين، ويقتادان إلى سيارة أخرى حيث يوضع «ريكاردو» في الصندوق الخلفي للسيارة، بينما يدفع «ألكس» إلى المقعد الأمامي بعد عصب أعينهما.
يتضح لنا أن «ألكس» استخدم كطعم للإيقاع بصديقه الثري لاختطافه ومطالبة أهله بدفع فدية مالية ضخمة مقابل الإفراج عنه. حين يلتقي «ألكس» برفاقه في الفريق قبيل مباراة في اليوم التالي يخبرونه عن اختفاء زميلهم «ريكاردو» فيتصنع الدهشة ويبدو عليه القلق.
فالنجم الرياضي الشهير عضو في عصابة إجرامية لخطف الأثرياء يقودها الأب «أرخميديس» بالتواطئ مع بقية أفراد العائلة صمتا أو مشاركة فعلية مثل «ألكس». لا يكشف لنا الفيلم الكيفية التي وصل بها الأب إلى هذا الخيار، نحن فقط ندرك من خلال لقطات «الفلاش باك» المتكررة، ومن خلال زيارته لضابط زميل سابق شارك في عمليات اختطاف، ليطلب منه النصح بشأن كيفية مواصلة نشاطه في ظل الحكم «الديمقراطي» الجديد، ندرك أنه كان ضابطا في جهاز المخابرات خلال حكم الديكتاتورية العسكرية للأرجنتين، الذي أطيح به في أعقاب حرب «الفوكلاند»، وأنه أحيل إلى التقاعد بعد ذلك، فقرر استخدام خبراته العسكرية، الاستخباراتية السابقة لتحقيق طموحات الأسرة في الثراء وارتقاء السلم الاجتماعي.
فقد كانت عمليات الاختطاف أو ما عرف «بالاختفاء القسري» كابوسا مرعبا عاشه الأرجنتينيون طوال حكم الطغمة العسكرية (1976-1981) كأحد أساليب القبضة الحديدية للسيطرة على البلاد، ويقدر عدد الذين اختفوا في تلك الفترة بنحو ثلاثين ألف شخص من ناشطي المعارضة وعائلاتهم، بعضهم تعرض للتعذيب في معسكرات اعتقال، وبعضهم لم يعد مطلقا، كما تمت سرقة أطفال بعض النساء المعتقلات أنجبن أثناء السجن وتقديمهم هدية للتبني لعملاء النظام، وهي الجرائم التي حوكم وأدين بها لاحقا رأس النظام الجنرال فيدلا. نحن لا نرى أيا من تفاصيل تلك الجرائم، فأحداث الفليم تبدأ بعد سقوط حكم العسكر، لكن من خلال التركيز على عصابة «آل بوتشيو» نتابع جانبا من الرعب الذي عاشته عائلات الضحايا.
فحوادث الخطف تلك لم تختف فجأة مع سقوط حكم العسكر، بل ظلت مستمرة على نحو أو آخر، والعصابة العائلية التي يقودها الأب «ارخميديس» كانت إحدى تجلياتها، مع فارق واحد هو أنه بدأ يعمل لحسابه، وهو يدرك أنه لايزال يتمتع بحماية، أو على الأقل بغض الطرف، من قبل رؤسائه في المؤسسة العسكرية القوية التي لم تفقد نفوذها كلية بعد إزاحتها من الحكم. نتابع الأب يحمل وجبة العشاء صاعدا إلى الطابق العلوي ليقدمها للشاب المخطوف المحبوس في حمام المنزل معصوب العينين، ومكبلا في حوض الاستحمام، ويطلب منه تناول الطعام ليستعد بعدها لكتابة خطاب إلى أهله يناشدهم فيه دفع الفدية لإطلاق سراحه. ثم يعود الأب بعدها ليتناول عشاءه على رأس المائدة العائلية، من دون أن يغفل أن يقودهم في أداء صلاة الشكر للرب حمدا على نعمه الكثيرة.

د. جيكل ومستر هايد

لو لم يكن الفيلم مأخوذا عن قصة حقيقية وقعت قبل نحو ثلاثين سنة من ظهوره، تحولت آنذاك حين تكشفت خيوطها ووقعت العصابة في يد العدالة إلى قضية رأي عام على المستويين السياسي والجنائي، لكان من الصعب على المرء أن يصدق بوجود شخصية مثل الأب «أرخميديس» في الواقع.
نحن بالفعل أمام تجسيد مذهل واقعي لحالة «د.
جيكل ومستر هايد»، الرواية الشهيرة للمؤلف الأسكوتلندي روبرت لويس ستيفنسون، التي صارت من كلاسيكيات الأدب والسينما، أو مسرحية المسرحي الألماني برتولت بريخت الشهيرة «الإنسان الطيب من ستشوان»، التي تبتكر فيها البطلة لنفسها شخصية «شريرة» لتتمكن من التعامل مع البشر.
فالأب « أرخميدس» ينتقل هنا بسلاسة عجيبة بين دوره كأب متفان في خدمة أسرته محب لزوجته وأبنائه وبناته، وبين دوره كزعيم عصابة إجرامية لا تكتفي بخطف ضحاياها وتعذيبهم، وابتزاز أسرهم وانتزاع الفدية منهم، بل يقوم بعد ذلك بقتلهم. لا يمكن تفسير حالة الفصام الأخلاقي التام تلك التي يجسدها الأب بدوافع الجشع والرغبة في الثراء السريع فقط.
فعلى مستوى آخر لا يقل أهمية، يجسد «أرخميديس» نموذج الحاكم الطاغية، ولكن في محيطه العائلي، يبث الرعب في كل من حوله ولا يقبل بأقل من الطاعة العمياء.
لقد توحد الرجل تماما بدوره السابق كضابط مخابرات، وباتت عمليات الخطف والتعذيب والتنكيل بالآخرين أسلوب حياة لا يستطيع التخلي عنه، ولا مانع من تحويله إلى تجارة مربحة.
لقد جسد الممثل الفذ غويللرمو فرانسيلا باقتدار مدهش تجليات شخصية البطل بين الأب الطاغية/ العطوف، والمجرم الزنيم الذي يقتل بدم برد لا تختلج فيه عضلة واحدة، علما بأنه في الأصل معروف في الأرجنتين كنجم كوميدي في المقام الأول.
نراه يفرض إرادته الحديدية على ابنه الأكبر حين يخبره برغبته في السفر للخارج، فيلقنه الأب موعظة عصماء عن واجباته تجاه أسرته التي لا يمكنه التخلي عنها، وقد حان دوره في التضحية من أجل الأسرة وتحمل المسؤولية إسوة بما قدمه والداه من تضحيات كل هذه السنين.
ونرى الابن «الكس» ترتعد فرائصه من مجرد فكرة معارضة أبيه، وهو المتورط حتى أذنيه في جرائم الخطف والقتل، بل إنه يظل عاجرا عن الخروج عن طاعة أبيه رغم تقريع ضميره الشديد، بعد أن يعلم بمقتل صديقه «ريكاردو» رغم دفع أهله الفدية.
ونرى ذلك مرة ثانية في مشهد توديعه لأخيه الأصغر «غوليرمو» في المطار في طريقه لرحلة رياضية، الذي يسر لأخيه الأكبر بأنه لن يعود لأنه يعلم بالفظائع التي يرتكبها الأب ويخشى عواقبها الوخيمة، ويحثه بدوره على الفرار.
وحين يتجرأ «الكس» لاحقا على عدم مرافقة الأب ومساعديه في عملية خطف أخرى تنتهي بكارثة، يصب الأب جام غضبه عليه، فيقرر « ألكس» السفر للخارج لإقناع أخيه الثاني «دانييل» بالعودة للانضمام للعصابة.
وفي مشهد مدهش يجسد المخرج حالة الفصام الأخلاقي تلك التي تعيشها الأسرة، نرى «ألكس» يمارس الجنس مع خطيبته في السيارة، فيما تختلط أصوات تأوهاتها بصرخات آخر ضحايا العصابة، وهي سيدة أعمال في الخمسينيات من عمرها ستكون السبب في سقوطهم جميعا في يد العدالة أخيرا.
حصل الفيلم على جائزة «الأسد الفضي» في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي الثاني والسبعين، وجائزة أفضل فيلم ناطق بالاسبانية ضمن جوائز «غويا» الثلاثين، كما جرى تكريمه في مهرجان «تورنتو السينمائي الدولي 2015». ورغم أن «العصابة» يجمع بين أسلوب وحبكة الأفلام البوليسية، وخيوط الدراما العائلية، ويوظف تقنيات أفلام الرعب خاصة في استخدامه الحاذق للموسيقى التصويرية التي تستدعي من ذهن المشاهد حقبة الثمانينات، إلا أن رسالته السياسية الثاوية في ثناياه تظل هي الأقوى بالتأكيد خاصة للجمهور الأرجنتيني الذي عاصر سنوات الرعب تلك.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى