فيلم “الحمل” اثيوبيا من الداخل

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

 

*عبد الكريم قادري
اختارت إدارة أيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ26 التي جرت فعالياتها ما بين 21/28 من شهر نوفمبر، الفيلم الإثيوبي الحمل (lamb) إنتاج 2015، ليكون فيلم الافتتاح بهذا المهرجان العريق الذي يهتم أساسا بالسينما العربية والإفريقية، إذ سبق لهذا العمل وأن شارك في الدورة الأخيرة لمهرجان “كان” السينمائي، في قسم “نظرة ما”، لأهميته الفنية والموضوعاتية، وما ينقله من صُور مختلفة ومؤلمة عن الوضع العام في إثيوبيا، التي عانت كثيرا بسبب الأزمات التي ألمّت بها، أكثرها قسوة وسوادا المجاعة التي أودت بحياة أكثر من مليون فرد في ثمانينات القرن الماضي، وهي صفحة ينقلها المخرج ولو بطريقة غير مباشرة، صوّر من خلالها هذا الماضي المُؤلم والمُظلم، عن طريق عيني الطفل “إفرائيم” (Rediat Amare) الذي يبلغ من العمر 11 سنة، وشاته “شوني”، وعن طريق علاقتهما تم اظهار عمق أثيوبيا، ( عاداتها وتقاليدها، مدنها وجبالها، أسواقها وطريقة عيش أهلها )، بعيدا عن “الكليشيهات” الجاهزة، التي دأبت على نقلها التقارير التلفزيونية السوداوية، وأفلام الفيديو التي تفتقد للأهلية الفنية.
نقل فيلم “لامب” الدرامي، صورا مُقتنصة من ماضي مخرجه الشاب يارد زيلكي (Yared Zekele)، الذي كتب السيناريو أيضا، حيث ارتكز فيه عن صفحات من حياته الشخصية، وما عاشه وعايشه في الأحياء الفقيرة بـ “أديس أبابا”، قبل أن يرحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويعود منها محملا بشهادة “ماجستير” في كتابة السيناريوهات والإخراج من جامعة نيويورك، لهذا نجد روحيه ما في العمل يصعب تفسيرها منطقيا، نقلتها تفاصيل صغيرة لا يمكن تجسيدها ونقلها سوى من خلال المُعاشية المباشرة من قبل صحابها، وقد أبّان عن موهبته في الإخراج ومدى تعلقه بالسينما، إذ يمتلك أدواتها التقنية والفلسفية، ويظهر هذا الفيلم مدى اشتغال المخرج وتعبه، حيث لم يغفل صغيرة آو كبيرة، ما جعل من فيلمه مُنتجا قويا.

توفيت والدة “افرائيم” بسبب الجوع، بعد الجفاف الذي أصاب العديد من المناطق الشمالية القاحلة بالبلاد، وهذا ما جعل والده (Indris Mohammed)، يقرر الرحيل للبحث عن عمل في مدينة “أديس أبابا”، ما حتم عليه بأن يعهد بابنه “إفرائيم” رفقة شاته “شون” التي لا يستطيع أن يستغني عنها، عند أقاربه بمنطقة “باله” الواقعة بالجنوب، حيث يعتمدون هناك وفي حياتهم اليومية على ما تجود به الأرض، من خلال فلاحتها بالطرق التقليدية والبدائية، نظرا لتوفر الماء، وهناك يبدأ الطفل الصغير في اكتشاف هذا العالم الجديد، حيث الجبال المرتفعة، والغابات تنسج بخضرتها بساطا على مد البصر، منطقة غير التي خبرها وعاش فيها رفقة عائلته التي فرقتها الظروف التي أوجدتها المجاعة، إذ الوالدة توفيت من الجوع، والوالد ذهب للبحث عن عمل، ولم يبقى له سوى الشاة “شوني” تؤنس غربته ووحدته، وسط كل هذا يحاول عمه (Surafel Teka)، تعليمه العمل الفلاحي، لكن عبثا يحاول، إذ الطفل صغير لا يقوى على هذا العمل العضلي، وفي خضم كل هذا ينقل الفيلم مشهدا كوميديا أسودا، من خلال إعطاء العم السوط لـ”إفرائم” كي يجلد الثورين لحثهما على الحرث، غير انه بدل ذلك قام بجلد العم عن طريق الخطأ.
تتواصل حياة الطفل “افرائيم” وسط العائلة الجديدة، إلى أن يأتي اليوم الذي تنقلب فيه حياته رأسا على عقب، بعد أن يُقرر العم ذبح الشاة “شوني” بمناسبة أحد الأعياد الدينية الأرثدوكسية، احتفالا بالصليب، ومن هنا يقرر الطفل البحث عن خطة ليرحل ويعود إلى بيته، لينقذ شاته من الذبح، لكنه يتفاجئ عندما يسأل عن سعر تذكرة الحافلة، إذ يجدها مرتفعة، وعليه فإنه لا يقوى على دفع ثمنها، ومن هنا يقرر العمل، فيبدأ في صناعة الكعك المحلي وبيعه في سوق القرية، من أجل جمع ثمن التذكرتين والرحيل من هذه المدينة التي سيُذبح فيها شاته، وكلما اقترب من جمع المبلغ يتم أخذه منه، مرة من الأطفال المتنمرين في السوق، ومرة من زوجة عمه، لكنه في الأخير يجد من يقف معه ويُسانده في هذه المحنة، من خلال ابنة العم (Kidist Siyum)، المتحررة المُحبة للثقافة والمطالعة، حيث كتم سرها بعد أن رآها تنسج علاقة غرامية مع صاحب شاحنة وسط القرية، وقد انعكست هذه المُساندة من خلال قيامهما بتأجير أحد تجار الأغنام، كي يقوم بإيواء “شوني”، مقابل مبلغ مالي معلوم، لكنهما تشاجرا معه فيما بعد، إذ رآه “افرائيم” يضرب ويقسو على شاته في السوق، حيث دخل معه في عراك شديد وهيستيري، تدخل فيه صديق ابنة العم وأنقذهما من هذا التاجر القاسي، ليدخل بعدها الطفل في رحلة بحث عن مأوى جديد لشاته، إذ سرعان ما وجده عند راعية غنم مسلمة، تقاربه سنا، حيث ترك “شوني” مع خرافها، وهنا بدأت تتأقلم معهم، ما جعله يقرر تركها بشكل دائما، إنقاذا لها من الذبح، وعطفا لأنها وجدت بيئتها المناسبة.

استغل المخرج “يارد زيلكي” قصة الفيلم الرئيسية ونسج على هامشها العديد من الحكايا الثانوية، التي نقل بواسطتها طقوس عيش العائلات الإثيوبية الفقيرة في الأرياف، وكيفية احتفالها وتعايشها وتلاحمها، إذ من حين لآخر، ومن مناسبة لمناسبة، يتم الاجتماع في بيت من تلك البيوت البسيطة، إذ يسردون الحكايا ويتبادلون النكات، ويتحدثون عن مغامرات الماضي، في نفس الوقت يتم التعارف بين الجيل الجديد، لخلق علاقات زواج وتعارف وتلاحم، ناهيك عن صور البؤس والشقاء والفقر والجهل الذي يعيشونه، كل هذا يدور في فلك الطفل “إفرائيم” الذي جعلنا نحسن بمدى حسرته ومرارته، بعد أن فقد آمه التي ماتت جوعا، وعليه كانت ضحية لنظام فاسد بأكمله، عجز آن يفر القوت لشعبه، على عكس توفيره للأسلحة للبحث عن السلطة وتثبيتها.
هذه الفقد جعل من الطفل “إفرائيم” ضحية لنظام فاسد، لكن المخرج وبذكائه لم ينقل هذا بشكل مباشرة، بل ذهب إلى النتيجة والمآلات،بعد أن نسج علاقة قوية ومقنعة بين الطفل وشاته، هذه العلاقة التي أحسسنا بها، ولامسنا عمقها، لقوة التمثيل والأداء التي وضعنا فيه هذه الطفل الموهبة، وقد جعل المتلقي/الجمهور، يتحسس انامله كلما مرر “إفرائيم” يده على صوف الشاة “شوني”، أو يضع رأسه عليها في حنان واضح، ومن هنا أظهر “زيلكي” مدى قوة فيلمه، بعد أن أنسن هذه الشاة، وجعلها عنصرا موزعا للعاطفة بين الناس.
من جهة أخرى استطاع مدير التصوير ” جوزي ديشايس” من خلال صوره البانورامية أن ينقل مدى جمال وروعة الطبيعة الإثيوبية، وحصرها في “كادرات” يصلح كل واحد فيها ليكون لوحة فنية.
من خلال هذا الفيلم الروائي الطويل، تكون السينما الإثيوبية والإفريقية على العموم قد عبّدت لنفسها طريقا إلى الفن السابع، وأسست لسينما جادة غير مبتذلة.

*سكرتير تحرير مجلة السينمائي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى