مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية بالمغرب يستعيد فكر باختين

الجسرة الثقافية الالكترونية

محمد العناز

نظم مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية يوم فاتح أبريل/نيسان 2016، بقاعة الندوات بالمركب الإداري بكلية الآداب بنمسيك، محاضرة لفائدة طلبة ماستر السيميائيات وتحليل الخطاب بنمسيك، موسومة بـ “باختين رائدا لتحليل الخطاب” قدمها الناقد والمترجم شكير نصر الدين، وأدار الجلسة د. رشيد الإدريسي الذي عرض مجمل أعمال باختين وتطرق لأهمية أعماله، وجدوى استعادتها من أجل تجديد التفكير النقدي المغربي.

وتدخل في البداية مدير المختبر د. عبداللطيف محفوظ مشيرا إلى أهمية استعادة فكر باختين، وتطويره، من أجل فتح آفاق أخرى للبحث في قضايا تحليل الخطابات السردية بالخصوص، وانتهى بتقديم برنامج المختبر المسطر خلال السنة الحالية.

بعد ذلك أعطت الكلمة لشكير نصر الدين الذي انطلق في محاضرته من مفهوم الحوارية بوصفه مفهوما مركَبا يخترق المنجز الفكري لباختين دون أن يكون مرادفا تاما له كما هو المثال بالنسبة لمصطلحات من قبيل: التفاعل، التناص، البوليفونيا، التعالق، وغيرها؛ بحيث يحضر المفهوم منذ كتابات باختين الأولى من خلال المبدأ الإجرائي، ويقصد به الباحث نصر الدين مبدأ “الوصل”؛ أي وصل الفهم والمعرفة، الأنا والآخر، الحوار والمونولوج، المتكلم والمخاطب، الهوية والتعدد، الكوني والمحلي، الملفوظ والتلفظ، الشرح والتأويل، وغيرها من المفاهيم والأطر المرجعية والمباحث.

الحوارية – حسب الباحث – تدلُّ على توجُّه كلّ خطاب نحو خطابات أخرى: سواء الخطابات التي تحققت من قبل حول موضوع الخطاب نفسه، أو الخطاب ـ الاستجابة التي يستدعيها والخطاب نفسه بصفته تلك؛ ويتجلى هذا التوجه على هيئة أصداء وارتدادات، وتناغميات تدل على خطابات أخرى، وأصوات أخرى تُدخل الآخر في الأنا. وتتمثل الميزة الأبرز للحوارية في أنها تجعل الإنسان في صلب التفكير، الإنسان باعتباره تعبيرا خِطابيا، الإنسان الذي يتكلم، الذي لا يتكلم لوحده، حتى حينما يكلم نفسه؛ في هذا يتميز الطرح الباختيني عن لسانيات عصره التي تجعل المتكلم قطب رحى التواصل، غافلة عن البعد الحقيقي لكل تواصل جدير بهذه الكلمة؛ أي التبادل اللفظي كتفاعل بين طرفين، متكلم ومخاطَب أو مخاطَبين، يجمعهما سياق اجتماعي وتاريخي ولغوي.

مميزا بين ظاهرتين اثنتين: التحاور الذي يتم على مستوى التبادل ويستدعي متحاورين، قد يكثر عددهم أو يقل؛ والحوارية التي تتم على مستوى الملفوظ وتستدعي خطابات عديدة. إلا أن باختين لا ينظر إلى لسانيات عصره نظرة إقصاء بل يُظهر قصورها فحسب، سواء في تجلياتها الوظيفية أو البنيوية أو السلوكية، مع تصويب في المنظور لمفاهيمها المؤسسة: المتكلم، المخاطَب، المستمع، الجملة، وغيرها من المكونات النحوية والمعجمية والدلالية؛ إذ يضرب لهذا التصويب المحوِّل مثَل فعالية المتكلم وتفاعله، حيث إن الأشكال اللغوية لا أهمية لها عند المتكلم باعتبارها إشارة ثابتة معادلة دوما لنفسها، بل هي علامة متبدلة ومرنة على الدوام” (الماركسية و فلسفة اللغة، ص 99).

كما أن على المتكلم، وفق منظوره، أن يأخذ في الحسبان المستمع والقارئ الذي يفك الشفرة. والشأن كذلك بالنسبة للكلمة والجملة وغيرها من الأشكال اللغوية، التي يتخذها باختين دليلا على عجز المقاربات اللسانية المعاصرة له، لأنها مقاربات لا تخرج، عموما، عن توجهين: توجه ذاتي مثالي وآخر موضوعي مجرد؛ يُعنى الأول بفعل الكلام، المنبثق من الإبداع الفردي كأساس للسان، وفيه تمثل النفسية الفرديةُ مصدراً للسان، وقوانين الإبداع اللساني فيه هي قوانين فردية ـ نفسية.

وفي التوجه الثاني يقع المركز المنظِّم لكل ظواهر اللسان، أي ما يجعل منه موضوعَ علمٍ محدَّد، داخل النسق اللساني، أي نسق أشكال اللسان الصوتية والنحوية والمعجمية؛ والتوجهان معا ظلا حبيسي الإرث الفيلولوجي الذي يستمد مدوناته من نصوص مكتوبة وفي الغالب من لغات ميتة، وبالتالي فإن المقولات المتأتية منها لا تخبرنا عن حقيقة التبادل اللفظي الحي، ذي الطبيعة الخارج لسانية، لأننا “لا نتبادل جُمَلاٌ كما أننا لا نتبادل كلمات (داخل فهم لساني دقيق جدا) ولا توليفات من الكلمات، بل نتبادل ملفوظات تتكون من وحدات لسانية ـ كلمات وتوليفات كلمات وجمل […] وتتسم العلاقة الحوارية بأصالة عميقة ولا يمكن اختزالها إلى علاقة منطقية أو لسانية أو سيكولوجية أو علاقة طبيعية.

إننا أمام علاقة معنى خاصة، عناصرها المكوِّنة هي ملفوظات مكتملة (…) خلفها يوجد وبوساطتها يعبر فاعل متكلم واقعي أو مفترض، أي مؤلف الملفوظ المعيَّن”(مشكل النص، ص 346) إجمالا، فإن النظرية الحوارية تَقلب الأطر النظرية للسانيات العامة، إذ بات النحو، الذي يتخذ الكلمة بصفتها وحدة لمنظومة اللسان، عاجزا عن حل قضايا الملفوظ الملموس الحي بوصفه وحدة في التبادل اللفظي، ولو تشكل هذا الملفوظ من كلمة واحدة، فهذه الأخيرة تدخل ضمن إطار هو إطار المتكلم في فعله التلفظي وسط عالم قيمي.

وتبعا لذلك بدل نظرية للعلاقة بالذات نحن إزاء نظرية للعلاقات بين متخاطَبين، ويغدو التبادل اللفظي هو الحقيقة الأولى للممارسة اللغوية، وإزاء تصور جديد للتفاعل اللفظي في كل مجالات النشاط الإنساني الموسومة بالتنوع والاختلاف، والمرتبطة ضرورة باستعمال اللغة، الذي لا يقل عنها تنوعا واختلافا من حيث ميزتُه ونمطُه، لأن التواصل اللغوي “يتم بوساطة ملفوظات ملموسة وفريدة، شفوية أو مكتوبة، تنبع من تمثيلات حقل النشاط الإنساني هذا أو ذاك.

والملفوظ يترجم الظروف والغايات في جميع هذه الحقول لا من حيث محتواه الموضوعاتي (التيماتي) فحسب أو أسلوب لسانه (…) ولكن أيضا من خلال بنائه التأليفي” (ص. 268) هذه العناصر الثلاث تنصهر في الملفوظ باعتباره كلاًّ، داخل مدار معين للتفاعل اللفظي، وكل مدار لاستعمال اللسان له أنواعه من الملفوظات، القارة نسبيا، وتلك هي أجناس الخطاب التي تفوق إطار اللسانيات العامة، هذه الأخيرة التي لا تنظر إلى التلفظات باعتبارها ذلك التحقق العملي للملفوطات في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية، المحكومة بالعلاقة الآنية أو المؤجلة بين المتخاطبين، وإنما ترى أنها تفتقد للدقة وفيها من التنافر والتشاكل ما يمنع وجود أرضية مشتركة لدراستها، لأن السمات المشتركة بينها ـ في نظرهاـ مجردة و عديمة الفعالية.

إلا أن باختين بتحويله لوجهة النظر يغير بالتالي موضوع الدراسة، أو على الأصح يضيء موضوع الدراسة ويوسع إطارها النظري إلى ما أسماه الميطالسانيات. “كيف تمكن الإحاطة بالملفوظ؟ هل بوساطة العوامل الميطالسانية؟ نعم”،[…] وفي موضع آخر: “أما العلاقة الحوارية بين النصوص والتي يظهر أثرها أيضا داخل الملفوظ المعزول فتختص بها الميطالسانيات، وهي تتميز بطبيعتها عن العلاقات اللسانية الموجودة بين العناصر داخل نسق اللسان أو داخل الملفوظ المعزول” (مشكل النص، ص 332 ـ333)، لأن العلاقات الحوارية هي شرط المعنى الذي ينجم عن الفهم الإستجابي، أي أن الفهم نتاج للعلاقات الحوارية وتداخل الذوات؛ وبهذه الصفة يتوجب على دراسة الملفوظ حسب باختين، نظرا لقيمته كوحدة حقيقية في التبادل اللفظي، أن تسمح كذلك بتعميق فهم طبيعة وحدات اللسان، من كلمات وجمل. “إن العلاقة الحوارية تقتضي وجود لسان، غير أنها لا توجد في نسق اللسان، إذ يتعذر قيامها بين عناصر اللسان.” (مشكل النص، ص، 337).

وتنقسم أجناس الخطاب حسب باختين في الدراسة التي تحمل العنوان نفسه إلى أجناس أولى وأجناس ثانوية. “وهي تضم على السواء الرد في الحوار اليومي (مع اعتبار الاختلافات التي تجليه وفق الموضوعات والظروف وتشكيلة طرفيه)، الحكاية المألوفة، الرسائل بأشكالها المتنوعة، الأمر العسكري المعمَّم في صورته المختصرة وفي صورة الأمر المفصَّل، ذخيرةُ الوثائقِ الرسمية (المعمَّمة في أغلبيتها)، وفضاء خطاب الإعلاميين (بالمعنى الواسع للكلمة في الحياة الاجتماعية والسياسية […] وتجمع بين الأشكال المختلفة للعرض العلمي وكل الأنماط الأدبية، بدء بالإلقاء وانتهاء بالرواية الضخمة” (ج. إ. ل، ص 269).

هذا التنوع الذي كان بمثابة العائق الذي جعل اللسانيات العامة لم تتوصل إلى وضع المشكل العام لأجناس الخطاب. ويشدد باختين على ضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الجوهري الموجود بين جنس الخطاب الأول (البسيط) وجنس الخطاب الثانوي (المركب) حيث إن كل مدار من النشاط الانساني يشتمل على ذخيرة من أجناس الخطاب تتطور وتتضخم موازاة مع تطور وتعقيد المدار المعطى؛ إلا أن هذا التنافر لا يعني أن أجناس الخطاب لم تكن موضوعا للدراسة: بل تمت دراسة الأجناس الأدبية والفنية أكثر من غيرها، سواء في العصر القديم أو في المرحلة المعاصرة، كما تمت دراسة الأجناس البلاغية (القانونية والرسمية).

وأخيرا تمت دراسة أجناس الخطاب اليومي (الرد في الحوار اليومي، بالأساس)، لكن ذلك تمّ من زاوية الفوارق الأجناسية البينية (في حدود الأدب) وليس كأنواع خاصة من الملفوظات تتميز عن أنواع أخرى من الملفوظات، والتي تشترك معها في كونها ذات طبيعة لفظية (لسانية)[…] وتتجلى أجناس الخطاب الثانوية ـ الرواية، المسرح، الخطاب العلمي، الخطاب الإيديولوجي، إلخ في ظروف تبادل ثقافي (مكتوب أساسا) ـ فني، علمي، اجتماعي ـ سياسي معقد أكثر ومتطور نسبيا” (نفسه، ص.270).

والعائق الأساسي في مختلف المقاربات المذكورة لأجناس الخطاب يكمن في أنها لم تواجه المظاهر الحوارية وخارج اللسانية في اللغة، لأنها بقيت حبيسة التحليل اللساني الصرف. بينما عمل باختين على “توسيع حدود كفاءة المتكلمين اللغوية أبعد من الجملة في اتجاه أنماط قارة نسبيا من الملفوظات” (ج. إ. ل .ص 268)، ذلك أن الأشكال اللسانية والأشكال النموذجية للملفوظات، أي أجناس الخطاب تقتحم تجربتنا ووعينا بطريقة متصلة دون أن يعرف تعالقها الحميم انقطاعا؛ أن نتعلم الكلام فذلك يعني أن نتعلم بَنْيَنَة الملفوظات. (لأننا نتكلم بوساطة ملفوظات، لا بوساطة جمل معزولة ولا بوساطة كلمات معزولة).

إن أجناس الخطاب تنظم كلامنا بالطريقة نفسها التي تنظمه بها الأشكال النحوية (التركيبية)، إننا نتعلم صياغة كلامنا في أشكال الجنس” (نفسه، ص 290). ويعتبر مدار التواصل هو أول مظهر يؤكد عليه باختين في دراسته الميطالسانية: “إن الرابط العضوي الذي يصل الأسلوب بالجنس يبدو كذلك بوضوح كبير عندما يتعلق الأمر بمشكل أسلوب اللسان أو الوظيفة. وبالفعل، فأسلوب اللسان والوظيفة ليس سوى أسلوب جنس خاص بمدار معين من النشاط والتواصل الانساني. إن لكل مدار أجناسه الملائمة لخصوصيته، توافقها أساليبها المحددة.

ويؤكد باختين على أن المدارات هي مجال وجود الكثير من الأجناس، وبالتالي فإن تصنيف الأجناس ينبغي أن يتم وفق مدارات النشاط الانساني، وهذه الأخيرة هي في العمق مبدأ تصنيف الأجناس. وهذا أمر يشدد عليه الباحث الفرنسي الذائع الصيت في مجال تحليل الخطابات، أو ما سمي مرحليا، اللسانيات النصية، جان ميشيل آدم الذي لا يخلو عمل من أعماله النظرية ـ التطبيقية من الاستناد إلى المنجز الباختيني، حيث يقول بأن الباحث الروسي هو بالتأكيد الباحث الذي عبَر مبكرا عن الحاجة إلى التصنيفات النوعية، والذي يحدد موضوعه عند تخوم علم الاجتماع واللسانيات والأدب”.

هذه الحاجة إلى التصنيف والترتيب هي التي نجدها في التمييز بين أجناس الخطاب، أولى وثانوية، وهو تمييز ذو أهمية كبيرة لفهم نظرية الأجناس، وامتداداتها التي شهدت إحياء لمقولة جنس الخطاب في مباحث عدة نظرا للطلب المتزايد عليها في النقد الأدبي، المنصب بالأساس على الخطاب الروائي، وفي تحليل الخطابات والنصوص، ومجال الشغل والتعليم والبحث العلمي في مجالات العلوم الاجتماعية والسياسية وغيرها من المباحث؛ طلبٌ اجتماعي قوِيّ على التصنيفات النموذجية في مجال التوثيق، وتوفير قاعدة معطيات نصية، والطلب المُلِحّ عند الباحثين أنفسهم، من خلال الحاجة إلى تصنيف المدونات؛ وتُظهر نظرية الأجناس هذه عن دقّتها على الأخص بالنسبة لكل باحث في مجال تحليل الخطاب الذي يطرح على نفسه سؤال المعايير التي ينبغي وضعها إبان جمع النصوص والمحادثات اللفظية بغية إخضاعها للمقارنة والتمييز، وسؤال كيفية مقارنتها ومباينتها وتأويلها، وسؤال المقولات الإجرائية التي ينبغي العمل بها.

وفي هذا السياق، نذكر بالثورة التي أحدثها هذا التصنيف الأجناسي في مجال النقد الأدبي المختص بالرواية، ويكفي الإشارة إلى إظهار باختين قدرة الرواية (كجنس ثانوي) على احتواء الكثير من الأجناس الخطابية الأشد تنوعا بفضل موضوع الدراسة الميطالسانية الذي تَمَثل في ظواهر من قبيل المحاكاة والأسلبة والمحاكاة الساخرة والحكاية والحوار؛ وإلى تبيان أن جل الأجناس الأدبية عبارة عن أجناس ثانوية تتألف من أجناس أولى متنوعة محوَّلة (ردود الحوار، محكيات الطباع، الرسائل، المذكرات الخاصة، الوثائق، إلخ).

إن تلك الأجناس الثانوية النابعة من التبادل الثقافي المركب سوف تحاكي أشكال التبادل اللفظي الأول المتنوعة. وهذا بالضبط ما يخلق كل تلك الشخصيات الأدبية المتواضَع والمتّفَق عليها من مؤلفين وساردين ومتكلمين ومخاطبين، كما أن كل عمل من أعمال الجنس الثانوي […] هو أيضا ملفوظ واحد وفريد، واقعي، له مؤلفه الواقعي ومتلقون يدركهم المؤلف حقيقة” (نفسه، ص. 315).

هكذا فإن العلاقة بين الأجناس الأولى والثانوية تسمح بإبراز المبدأ الحواري للغة، ليس على صعيد النصوص فحسب، بل وبالأخص على صعيد مدارات التبادل الإنساني الثقافي، وبالتالي فالمقاربة الميطالسانية، كما هي عند باختين، مقاربة للمقامات، في وقت كانت فيه باقي النظريات اللسانية حبيسة اللسان بوصفه نسقا مغلقا من الأشكال اللغوية. فالمقولات الواردة في دراسته أجناس الخطاب (1952 ـ 1953) هي تلك المجتمعة في كل الملفوظ (المحتوى الموضوعاتي والأسلوب والبناء التأليفي) والتي يبدو للوهلة الأولى أنها تنبع من تصور للنص أكثر مما هي تصور للجنس، بينما نجد في مؤلفاته السابقة على هذه الفترة، تصورا للمقام الذي يدمج البعد التقييمي للملفوظات، هذا البعد التقييمي الذي يتجلى حسب حلقة باختين ـ فولوشينوف ـ ميدفديف في التقييم الاجتماعي، الذي يتعلق بالتحديد الاجتماعي ـ التاريخي للملفوظات، وبالتالي يمكن تفصيل السياق خارج اللساني للملفوظ إلى ثلاثة مظاهر: الأفق المكاني المشترك بين المتخاطبين، معرفةُ وفهم المقام المشترك أيضا بينهما، وتقييمهما المشترك لهذا المقام.

وهذا الأخير لا يؤثر في الملفوظ بصورة ميكانيكية، بل إنه يندمج فيه بوصفه عنصرا ضروريا للتكوين الدلالي. “إن الكلمة تتسرب حرفيا إلى كل العلاقات بين الأفراد، في علاقات التشارك، في العلاقات ذات السند الإيديولوجي، في العلاقات العابرة في الحياة اليومية، في العلاقات ذات الطابع السياسي، إلخ. إن الكلمات منسوجة بفضل عدد لا حصر له من الخيوط الإيديولوجية، وتؤدي دور الحبكة في كل العلاقات الاجتماعية داخل كل المجالات” (الماركسية وفلسفة اللغة، ص.37 ـ 38).

والتصور نفسه يحكم جنس الخطاب، الذي ينظر إليه على أنه كلٌّ يتشكل من مكونات داخلية، لكنها تُدمِج في بَنْيَنَتِها الدلالية مكونات المقام مثلما يتصوره و يقيِّمه المتخاطَبون، هذا المقام الذي تحدده عوامل خارجية (من قبيل الأسرة، الوطن، الطبقة الاجتماعية، الأيام، الأعوام، وعصور بأكملها”. وهذه خاصية الملفوظات اليومية، التي ترتبط بالسياق خارج اللفظي عبر وشائج كثيرة، وحينما نفصلها عن هذا السياق فإنها تفقد تقريبا معناها، إذ عندما نجهل سياقها المعيش المباشر يتعذر علينا فهمها (باختين ـ فولوشينوف،1930، ضمن المبدأ الحواري، تودوروف، 1981،ص.191 ـ 192).

دائما وأبدا نصادف الحوارية التي تعد بمثابة حجر الزاوية في المنجز الفكري لميخائيل باختين، نشهد ثمارها في مباحث عدة، وتعرف استخدامات وتحويلات عديدة في العلوم الاجتماعية أو الاجتماعيةـ اللسانية أو العلوم السياسية كما أسلفنا، وبشكل خاص في مجال النقد الأدبي المختص بالخطاب الروائي باعتبار علاقاته التناصية الحوارية في الزمنية الصغرى (السياق الأدبي المباشر) أو الزمنية الكبرى (في التاريخ الأدبي الفني والجمالي عبر العصور).

إنها الحوارية التي تعُمُّ الملفوظات، كيفما كان حجمها وانتماؤها الأجناسي، تجمع المتكلم والمتلقي، إذ لا يمكن تصور وجود أي خطاب خارج العلاقة بالمتلقي، بالآخر، بالغير، الحاضر، تصريحا أو ضمنا في خطابنا الشخصي، والغيرية، تتصل على نحو وثيق بالحوارية، إذ لا يمكن تصور هذه دون تلك، فتعاقب المتكلمين، الآخرين هو ما يحدد اكتمال الملفوظ، شفويا كان أو مكتوبا، وعلاقة بالآخر، واستباقا لردود أفعاله، يصطبغ الخطاب الشخصي بتلويناته الأسلوبية، لأن الآخرين “الذين يتشكل الملفوظ من أجلهم، يلعبون دورا كبيرا، هم الذين تصير أفكاري بنظرهم، وللمرة الأولى، أفكارا واقعية، إنهم ليسوا مستمعين سلبيين، بل هم مساهمون فاعلون في التبادل اللفظي، وينتظر منهم المتكلم، منذ الوهلة الأولى، إجابة وفهما استجابيا فاعلا، فالملفوظ برمته يتشكل كما لو كان يسير نحو هذه الإجابة”[…].

إن مختلف الطرق النوعية للتوجه إلى شخص ما ومختلف التصورات النوعية للمتلقي هي مميزات مكوٍّنة كافية ومحددة لمختلف أجناس الخطاب”(ج. إ. ل. ص ( 308 ـ315)، حيث يحضر الآخر بقوة واسمة، تطبع الملفوظ وتمثل خاصية من خصائصه المميزة، ألا وهي تعاقب المتكلمين الذي يرسم تخوم الملفوظ “إذ تُحدَّدُ تخومُ الملفوظِ الملموس بوصفه وحدةً للتبادل اللفظي، عبر تعاقب الذوات المتكلمة، أي تعاقب المتكلمين، إذ لكل ملفوظ بداية و نهاية مطلقة، قد يكون الملفوظ ردّا موجزا(كلمة واحدة) أو عرضا علميا، قبل بدايته هناك ملفوظات الآخرين، وبعد نهايته هناك ملفوظات ـ إجابات الآخرين” (نفسه،282) لأن التفاعل الذي ينشأ بين ردود الحوار، أي العلاقة التي قد تتخذ شكل سؤال وجواب، إقرار واعتراض، تصريح أو موافقة، عرض وقبول، أمر وإنجاز، إلخ تبدو مستحيلة بين وحدات اللسان (كلمات وجمل)، فالعلاقة تقتضي الطرف الآخر في التبادل.

إن هذا التعاقب هو ما يمثل اكتمال الملفوظ، وهو مظهر أساسي في أجناس الخطاب بنوعيه، سواء في الحوار الواقعي، أي الشكل البسيط و القديم في التبادل اللفظي أو في الأعمال المعقدة البناء، من روايات ومسرحيات وعلوم وفنون، باعتبارها وحدات للتبادل اللفظي الثقافي الإبداعي. وبالتالي فإن مقولات من قبيل التناص والغيرية والوصل تجد كامل فعاليتها المخصبة في أكثر من اتجاه داخل فكر لا تحده ضفاف، قائم على الانفتاح والحوارية، يُضاد الحواجز التي تتخندق خلفها المباحث المنغلقة على وثوقيتها.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى