خلافة السنهوري والديمقراطيـة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

أحمد بيضون

على صعيد أبعد عن تأسيس الخلافة في الدين وتتبّع تحوّلاتها التاريخية والبناء على مرحلة الراشدين باعتبارها مرحلة الخلافة «النظامية»، يعمد عبد الرزاق السنهوري إلى ما يراه للخلافة من مزايا تقرّبها من أنظمة شائعة أخرى للدول، وتبعدها عن أخرى فيتناولها، في صفحاتٍ من أطروحته ، بعين الحقوقي القادر على المقارنة. فهو، مثلاً، يعدّها أقرب إلى النظام الجمهوري، لبعدها المبدئي عن التوريث وارتباط شرعية المختار لها بالبيعة العامّة بعد أن يسمّيه «أهل الحلّ والعقد» في الأمّة. وهو قول فيه نظر إذ شهدت مرحلة الراشدين اختياراً (هو اختيار أبي بكر عمراً) بتسمية السلف خلفه وآخر (هو اختيار عثمان) بالشورى التي سمّى الخليفة الثاني أهلها. وشهدت المرحلة نفسها، في مطلعها، غياب الهاشميين عن يوم السقيفة، وهو ما أتاح اعتبار بيعتهم اللاحقة فرضاً ألزموا به تحت طائلة الفتنة. وغاب الإجماع عن بيعة الخليفة الرابع غياباً أفضى إلى فتنة لا تنقضي…
أمّا البيعة، بحدّ ذاتها، فتقليد قديم اعتمده المسلمون وبقي يطلبه الملوك إلى اليوم، على الرغم من سريان قاعدة التوريث في توليتهم. وهو ما لا يشير إلى شبه بالانتخاب الحرّ، مع العلم أن الإعلان في البيعة (وتقابله السرّية في التصويت الديمقراطي) منتقِصٌ من الحرّية فيها دائماً ومسهِّلٌ لدخول عواملَ في فرضها أظهرُها التهديد السافر أو المكتوم.
وقد بدأَت سيرورةُ الخلافة بحصر الحقّ فيها، يوم السقيفة، في قبيلة الرسول. وكان هذا الحصرُ الذي أبقى عليه الراشدون الأربعة أُولى الخطى (إذ هي بلا سندٍ من الدين) نحو الوراثة الصريحة والملك العضوض، بل إنه يمكن القول إن غياب التوريث من دواعي استخلاف الراشدين الأربعة مسألةٌ فيها نظرٌ كثير. فإن الراشدين لم يكونوا سوى حمَوي النبي وصهريه، والتوريث هو ما ذهب فيه الشيعةُ إلى المدى الأبعد إذ أقاموا الإمامة على ضربٍ منه نسبوه إلى أصلٍ إلهي، مثْبَتٍ بنصّ من الرسول يوم الغدير. وكان الحصر المشار إليه أيضاً إقراراً لتفاضلٍ بين المؤمنين، لا على أساس التقوى وحدها (وفقاً للحديث المشهور)، بل على أساس عصبية الأصل أيضاً. وهو ما ستزيده وقائع التاريخ – تاريخ الخلافة – صراحةً على صراحة. هذا كلّه يجعل الشَبَه الذي ينوّه به السنهوري بين نظام الخلافة والنظام الجمهوري الديمقراطي كلاماً من القبيل الذي يردّ الفضل أو الأسبقية في كلّ أمرٍ عظيم إلى ذوي المتكلّم، على غرار القول إن عبّاس بن فرناس الذي أراد التشبّه بالطيور هو مخترع الطائرة.
أمرٌ آخر يرى فيه السنهوري تفوّقاً لنظام الخلافة على الديمقراطية الحديثة هو الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. فعنده أن الخليفة لا تدخّل له في التشريع البتّة إذ الشرع ربّانيّ أصلاً. فيتدبّره وفقاً لمقتضى الوقت جماعةٌ من العدول موصوفون بالعلم والفضل هم المجتهدون. هؤلاء يستقون أحكامهم من القرآن والسنّة ويُعدّ إجماعهم أصلاً ثالثاً للتشريع. وقد بني اعتماد الإجماع بين أصول الفقه على جزم النبي بأن الأمة لا تجتمع على ضلال واعتُبر الفقهاءُ المجتهدون ممثّلي الأمّة في التشريع.
على أن السنهوري ما إن يقرر هذه الأمور المعلومة حتى تدخله المقارنة بين «الإجماع» والنهج الديمقراطي في التشريع المعاصر في حيرة واضحة. فإذا هو يجد سبيلاً إلى اعتبار الأكثرية «إجماعاً»، هي أيضاً، بالمعنى الإسلامي. وإذا به يفطن إلى أن التشريع المعاصر بات محتاجاً إلى خبراتٍ تفيض عن نطاق الفقه فيجد مخرجاً في اعتبار «أهل الذِكْر» في المصطلح الإسلامي هم خبراء العصر الحاضر… وهذا ترادفٌ لا نجد دليلاً عليه في كلامه. يقول هذا قبل أن يفتي بأن «الإجماع» يسعه أن يكون إجماع نوّاب الأمّة، وهو ما يحمل على السؤال إن كان يبقى شيء من «الإجماع» الإسلامي في هذا الإجماع الأخير.
أمرٌ آخر لا يستوقف المقارنة السنهورية بين «الإجماع» والقاعدة الديمقراطية في التشريع هو الفارق، لجهة التكوين ولجهة الاستمرار، بين سلطة الفقهاء المجتهدين وسلطة النوّاب المشترعين. فبينما تقوم السلطة الأولى على علم وفضلٍ يقرّ بهما الأقران تقوم الثانية على إرادةٍ هي محصّلةٌ لتصوّرات الجماعة لمصالحها. وهذه محصّلة لا تفترض الإجماع لا في اختيار المشرّعين ولا على مندرجات التشريع، بل هي تفترض الخلاف في الأمرين. والبون شاسع في كلّ حال بين إنشاء السلطة وإرساء التشريع على العلم بالأصول (علم الفقهاء) وبين إنشاء تلك وإرساء هذا على معرفة المصالح والمفاضلة بينها. هذا الخيار الأخير هو ما يجعل سلطة المشرّعين محدودةً في الزمن ويجعل أشخاصهم خاضعة لتبديل دوري هو مناسبةٌ لأداء الحساب من جانبهم أمام الجماعة التي يعود إليها أن ترتّب على الأمر مقتضاه. والفارق نفسه يعكس الهوّة الماثلة بين سند بشريّ للتشريع يوجب اتّخاذ تدبّر المصالح منطلقاً وسند إلهيّ للشريعة يملي الانطلاق من تدبّر النصوص وافتراض التفوّق للنصوص في تعيين المصالح. وذاك أن المنحى الأخير يبقي الباب مشرعاً أمام الارتداد، باسم الشريعة، على ما يكون البشر قد استجدّوه من قيمٍ وقواعد وسّعوا باعتمادها دائرة حقوقهم وأخذوا يقيسون عليها مصالحهم. فيأتي من يقول إن هذه القيم مخالفة للشرع أو أنها بدعٌ غير واردة فيه فينبغي هدمها.
وإذ يلبث الشرع ذو المصدر الإلهي مجسّداً في سلطةٍ على حدة، يجد الخليفة نفسه عند السنهوري، فيما يتعدّى جمعه الصفتين الدينية والسياسية والافتراض المبدئي لحيازته صفة الاجتهاد، مجرّداً من كلّ صفة روحية ومن كلّ سلطةٍ تشريعية. فيُقْتصر مقامُه على سلطةٍ تنفيذية لا كلمة له في أصولها ولا في قواعد إجرائها. على أن هذا التقدير، فضلاً عن مجافاته تاريخ الخلافة كلّه، لا يوضح كيفيةً لتكوين سلطة الرقابة على الخليفة ولا كيفية إلزامه بما تراه هذه السلطة واجباً. والواقع أن الحرج يبدأ من الراشدين إذ كان هؤلاء أهل اجتهاد قبل شيوع المصطلح وكانوا، لصحبتهم النبي وقرابتهم منه، في الطبقة الأولى من المعرفة بالكتاب والسنّة. هكذا اجتمعت في أشخاصهم، باعتراف السنهوري، السلطتان التشريعية والتنفيذية ولو كان عليهم أن يلجأوا أحياناً إلى المشورة في المجالين. لم يكن اللاحقون من الخلفاء على هذه السويّة ولكن بعضهم كان من أهل الاجتهاد فضلاً عن عدالته. فكيف لا تُسوّغ سابقةُ الراشدين (وهي المثلى وهي المرغوب في العودة إليها) لمن يرى في نفسه الأهلية من الخلفاء أن يعود إلى جمع السلطتين في يده اعتداداً أو استبداداً؟
تلك مسائلُ تبقى ملقاةً على قارعة هذا الكتاب. على أن أكثر المسائل المتّصلة بالخلافة إلحاحاً، في أيّام السنهوري، كانت مسألةَ المصير الذي يسع الأمّةَ أن تستجدّه للخلافة بعد أن ألغاها مصطفى كمال. وبالصيغة التي يراها السنهوري ممكنةً لبعث الخلافة في عصره نختم، في عجالتنا المقبلة، مراجعتَنا لكتابه هذا.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى