روجيه عساف عاشق في حديقة الأميرة

الجسرة الثقافية الالكترونية

عبده وازن

ليس سهلاً اللجوء إلى النصوص الصوفية بغية مسرحتها ونقلها من الحيز اللغوي والرمزي، بما يحوي من أبعاد عرفانية وباطنية، إلى فسحة بصرية وسمعية يُفترض بها أن تكون تأويلاً مشهدياً لها. الكاتبة والمخرجة اللبنانية لارا قانصو خاضت هذا الرهان في مسرحيتها «عشق» (سمتها بالفرنسية «حديقة حب»- مسرح مونو، بيروت) التي خلطت فيها مرجعيات صوفية عدة، شعراً ونصوصاً وموسيقى ورقصاً وتشكيلاً لئلا أقول ديكوراً… الرهان بدا صعباً فعلاً نظراً إلى تشتت هذه المرجعيات وصعوبة التوفيق بينها، لكن قانصوه خاضته بجرأة غير متهيبة عواقبه. فهي انطلقت أساساً من اقتباس نص من مسرح «النو» الياباني عنوانه «إصر الحب» (وإصر تعني العهد أي «عهد الحب») للكاتب الياباني الكلاسيكي زيامي. ثم أضافت إليه مقطوعات طفيفة من ملحمة «منطق الطير» للفارسي فريد الدين العطار في ما يشبه «المونتاج» الذي تم نسجه عبر قصة الحب اليابانية وهي تدور بين أميرة في الثامنة عشرة وبستانيّ في خريف العمر. أما إخراجياً فاعتمدت لعبة «المونتاج» نفسها في التمثيل والرقص والموسيقى والسينوغرافيا.
مصممة الرقص وهي اليابانية كازومي فوشيغامي قدمت لوحات راقصة متعددة الهويات والإيقاعات، كلاسيكياً وحداثياً، إضافة إلى لحظات من رقص الدراويش (جلال الدين الرومي)… الموسيقى أيضاً اختلط فيها اللون الياباني والشرقي وتجلى الشرقي في أبعاد عدة: غناء أصيلاً وإنشاداً دينياً وصوفياً، وبدا جميلاً إدخال مقاطع من أغنيات لأسمهان وأم كلثوم وسواهما. وبدا مفاجئاً جداً إدخال مقطع صغير من أغنية للمطربة طروب «يا دادا يا ختيارة» ولكن في سبيل التفكهة وكسر السياق من خلال خادمة الأميرة (روزي يازجي) التي بدا دورها ساذجاً قليلاً. أما الناحية البصرية في المسرحية (الديكور والسينوغرافيا والملابس والإضاءة) فتراوحت بين أجواء عدة أيضاً: دوائر ومثلث ونصف دائرة وعلى الشاشة العليا أشكال هندسية رمزية وطيور عابرة ترمز إلى «منطق الطير» أو طيور العطار في رحلة البحث عن «السيمورغ»، وملابس يابانية بمعظمها، شاءت المخرجة من خلالها أن ترد المشهد إلى أصله الياباني وإلى «النو». لكنها ظلت بعيدة عن روحية مسرح «النو» وتقنياته وبدت علاقتها به سطحية وخفيفة جداً، تماماً مثل علاقتها بنص العطار. وكان ربما عليها، في كونها فرنكوفونية، أن تأخذ في الاعتبار أن مخرجين عالميين كباراً بذلوا جهداً كبيراً في العمل على هذه النواحي مثل بيتر بروك (منطق الطير) وأريان منوشكين («النو» و»الكابوكي») وهذا ما يعني أنه كان على المخرجة أن تبحث عميقاً في جذور عملها. ليس من السهل التطرق إلى هذه النصوص والمدارس المسرحية من دون الاطلاع ولو نظرياً على الإنجازات الباهرة التي تمت انطلاقاً منها. وليت الكاتبة- المخرجة لجأت مثلاً إلى نص الشاعر الفارسي سعدي «حديقة الورد» الذي كان أشد ملاءمة مع جو مسرحيتها، على خلاف نص «منطق الطير» المعقد الذي مر ظاهراً وبسرعة .
إلا أن هذه الملاحظات لا تعني أن قانصوه أخفقت في عرضها المسرحي هذا بتاتاً، ولو أنه كان يحتاج إلى خيط متين يجمع بين عناصره المتعددة. تكفي مشاركة المخرج والممثل الكبير روجيه عساف مؤدياً شخصية البستاني العاشق في خريف العمر والذي يعيش هذه التجربة العشقية الصوفية والحواسية (وليس الحسية) بقوة وشفافية وانسحاق. وإن لم يكن دور عساف طويلاً في المسرحية فهو استطاع أن يملأ المسرح بحضوره الطاغي والمرهف مجسداً شخصيته التي جعلها بمهارته واقعية ورمزية في آن واحد، حقيقية وحلمية.
إنه البستاني الذي يصيبه سهم الحب فيوقعه في مرض العشق والوله ويفتح عينيه على نور عجائبي غير مألوف. أما المعشوقة التي تصبح عاشقة فهي الأميرة (سارة وردة) التي تعهد إليه أن يُسمعها دقات قلبه ضارباً على دف من حرير وهو دف الصمت، واعدة إياه أنها ستمنحه خصلة من شعرها. لكن هذا العاشق المتقدم في العمر لا يتمكن من الصمود أمام تجربة الحب القوي فيتلاشى في النور أو يغيب متحولاً إلى طيف. أما الأميرة فيبدّل هذا العشق حياتها فتغادر سالكة سبيل النور والمطلق. للمرة الأولى أشاهد روجيه عساف يؤدي مثل هذه الشخصية، أعطاها الكثير وأعطته الكثير وجعلته يعيش بالحقيقة وليس بالوهم، هذا الحب الذي يعيد «الشيخ» إلى صباه. وأعتقد أن من الصعب على غير عساف أن يؤدي هذا الدور بهذه القوة والرقة والعذوبة… وبدا حضوره طاغياً على الممثلتين حتى كاد يمحو وجودهما كممثلتين وليس كشخصيتين، وهما تحتاجان إلى المزيد من الإعداد والمراس.
أما المؤدية دالين جبور فكانت ساحرة بصوتها الشرقي الدافئ ذي العُرب والالتفافات الجميلة. لا يخلو النص من البعد الخرافي أو الغرائبي والحلمي بصفته قصة حب بين أميرة وبستاني وكان في إمكان المخرجة أن تمنح هذا البعد مزيداً من الشغف والتخييل. وما يثير بعض العجب هو اتكاؤها غير المبرر على جملة للكاتبة الفرنسية الكبيرة مارغريت يورسنار من كتابها «الأرملة أفروديسيا»، فصاحبة «مذكرات أدريان» إغريقية الهوى وفي دمها قطرات من عرق الشاعرة سافو.
في الختام لا بد من توجيه تحية إلى لارا قانصوه وإلى فريقها الفني على هذا العرض الجميل وإن كان خفيفاً ويفتقر إلى المزيد من المادة الدرامية والصهر. عمل جميل يحتاج إليه المسرح والجمهور اللبناني اليوم كل الحاجة في زمن يكاد الإنسان اللبناني يفقد بصيص النور الذي أبصره البستاني بروحه وعينه.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى