التعدد في أعمال التشكيلي عادل حواتا… أو الصدمة والعدمية

الجسرة الثقافية الالكترونية

عز الدين بوركة

صرنا اليوم أمام إشكاليات متعددة مُلزمين بطرحها محاولةً لمساءلة الفن حاضرا: كيف له الفنان الخلاق أمام العدمية المخيّمة على الحاضر، وأمام ما يفعله السوق من إتلاف الإنسان والمجتمع، وأمام ما بتنا نعرفه بزمن السرعة أو «الآنية»، وأمام وكالات التصنيف، وما يقدمه البعض كجرعات سريعة وسحرية للعالم؟ كيف له الانفلات بذاته من كل هذا؟ وهل هو ملزم بمسايرة الموضة والسوق والتكنولوجيا؟ أم هو كائن مكتفٍ بذاته، وموجود لذاته من حيث هو الوجود؟
من هذه الأسئلة وغيرها تنطلق ورقتنا هذه لنلج ونسبر أغوار العمل الفني لدى الفنان التشكيلي المغربي ـ المقيم في بلجيكا ـ عادل حواتا. هذا الفنان الذي يتخذ لنفسه مسارا سُلميا لا أفقيا مستمرا، مسارا تتخلله مراحل الثبوت والتأمل والبحث غاية في التجدد.
في معرضه الأخير «صدمة» المقام في دار العرض نظر (17 مارس/آذار 2016)، ينطلق هذا الفنان من رؤية متجددة تجعل من فلسفة العدمية ركيزة اشتغالٍ وتوليف، محافظا على رسالته الرافضة للحدية (الحدود).
يخبرنا الفيلسوف الألماني نيتشه أن العالم لا يجد تبريره سوى كظاهرة فنية أو جمالية. فالفن هو الشكل الميتافيزيقي للعالم. والفن كما يراه هذا الفيلسوف هو مظهر العالم، إذ العالم لا يمكن أن يوجد إلا كمظهر، إن المظهر هو الحياة كما يؤكد. إذ تنبني فلسفة نيتشه على القلب، فيرى أن الفن هو أداتنا لتجاوز الميتافيزيقا عبر خلق ميتافيزيقا جديدة لإثبات الحياة، ونفي العدم. فكما هو الحال عند الفيلسوف الألماني الآخر هيدغر، فالميتافيزيقا إن قادتنا إلى نسيان الوجود فالفن هو غايتنا للوجود. فالفن هو مشروع ميتافيزيقي غايته القضاء على العدمية. كأننا أمام قلب للميتافيزيقا في محاولة للتخلص من العدمية، فالفن هو خلاصنا وخلاص العالم، هو سبيلنا للوجود.. الفن الذي يتخذه الفنان عادل حواتا وسيلته لقوله الداعي إلى هدم العدمية وإثبات الحياة وتحويلها إلى ظاهرة فنية وجمالية.
فإبداع الفنان بالتالي هو عمل ميتافيزيقي، عمل لامرئي، لابُعدي (غير خاضع للأبعاد)، هو الحياة في تراكماتها، وهو خلق متكرر للوجود، ففرشاة الفنان هي السديم الذي منه يخرج الكون والعالم. فما العملية الفنية، بالتالي، إلا نفي للعدم.
لا ينطلق نيتشه وهيدغر من أن الفن هو محاكاة أرسطوية للحياة، بل هو الحياة نفسها وليس صورة أفلاطونية مشوهة (سيمولاكرية) لها أو تمثلا لها… بل هي الفنان إذ يتلبسها. فما يقوم به الفنان إلا إعادة تركيب العالم في شكل مغاير ومتجدد: شكل ميتافيزيقي.
من ها هنا يمكننا الولوج لأعمال عادل حواتا التي جاءت تبتغي الهدم والخرق لميتافيزيقا العدم، الذي صارت تخلقها السوق الاستهلاكية، التي خلقتها الحدود الفاصلة بين المجتمعات، مما خلق فوارقَ اقتصادية حادة، غايتها جعل الكائن سلعة وأداة استهلاكية كبرى. في أعماله الأخيرة يجعل هذا الفنان من اللون الأبيض، الطاغي على مجموعة من أعماله، لونا مستحوذا أو إضافيا، دالا على فراغ الوجود، الذي عبّر عليه العدميون الفرنسيون أمثال: آداموف، وصمويل بيكيت وأوجين يونسكو وغيرهم، داعين إلى فلسفة العبث واللامعقول. متأثرين بالخلفية الرائية بسوداوية العالم. وتطغى أيضا على أعماله الألوان القاتمة (الأحمر، الأسود…) كما الألوان المحايدة، في دلالة على الأمر ذاته، ويتخلل جلّ هذه الأعمال الدائرة التي تحضر عبر حجوم مختلفة من الكبيرة التي تتوسط المربع الأيقوني للوحة، أو مجموعة من الدوائر الصغيرة التي تتكاثف وسط العمل. فالدائرة تحضر عند هذا التشكيلي من خلال رؤية تنطلق من خلفية صوفية ترى أن الكون مجموعة من حقائق تدور في ما بينها من الذرة إلى المجرة إلى الأكوان المتوازية نفسها، للتقابل والأفكار الفيزيائية الكونية المعاصرة.
يوالف عمل عادل حواتا متناقضات متعددة، بين اللون والشكل، بين الخلفية والحدّ، بين اللون القاتم والفاتح، بين الشكل واللاشكل، فعمل هذا الفنان يجعل لنفسه أن يصير عملا ميتافيزيقيا في هرمونية تدعو إلى التأمل.
أي عمل فني لكي يصير متكاملا يجب أن تستوفى فيه الشروط الثلاثة: الرسالة الضمنية، والبعد الاستيتيقي والرؤية. فرسالة هذا الفنان التي يحملها معه في ألوانه ورموزه غايتها مواجهة الحديّة التي خلقت لنا كلّ تلك الفوارق الاجتماعية والإثنية واللغوية والاقتصادية (لا علاقة للأمر هنا بالاشتراكية في شيء بقدر ما يتلاقى هنا الفنان بأفكار مفكرين رائين بما نسميه بالحضارة الإنسانية لا غير أمثال تزفتان تدروروف). وأما الرؤية فهي متغيرة ومتجددة من زمن اشتغال إلى آخر. إذ تحضر العدمية في أعماله الأخيرة كمرتكز فلسفي يشتغل عليه الفنان. أما الجانب الاستيتيقي فقد تعددت آليات الاشتغال عليه وعبره لدى هذا الفنان. إذ تحضر مجموعة من الأعمال داخل نسق جمالي للدوائر والخطوط العمودية والأفقية، وأخرى تراكب بين الألوان الحادة والباردة، بينما أخرى جعلت من الصباغة المسكوبة على طول مساحة القماش شكلا لها، كأني به الفنان يصنع سُدما من حيث تنبعث الحياة، إذ يُشابهها بالسُدم الخالقة للشموس في الكون البعيد. كما تفرقت أعمال المعرض على تقنيات الصباغة فوق الخشب والصباغة على القماشة الملصقة فوق المسند الصلب (الخشب) مما يهب العمل أبعادا متعددة في الرؤية والاشتغال.
يُعالج عادل حواتا أعماله كأنها مواد خام، يحضر فيها الأسود كخلفية مستحوذة (دلالة على السوداوية) تتراكب مع الألوان الأساسية (الأصفر، الأزرق الأحمر) في توالد باهر للضوء مما يجعل للعمل لديه شكلا مستفردا في الاشتغال.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى