«فخ» لسامي جريدي… أزمة الوقوع في مكيدة الجسد

الجسرة الثقافية الالكترونية

سلمان السليماني

< عقد دلالي وسياق واحد، تنتظم فيه نصوص «فخ» السردية لسامي جريدي، إنه الجسد بتجلياته المؤرقة النزقة، التي تحبس الروح وتسجنها في تجسيد اللحم والدم، هذا المنظور الصوفي الذي يعمد إليه الكاتب سامي جريدي في تصوره العام عن وفي نصوصه، الذي يعبّر عنه بممارسة لغوية عبثية ظاهرة تحيل للبلبلة، التي شكلت اللغات قديماً كما عُرف من الأسطورة الشهيرة لبرج بابل.
هنا في هذه المجموعة السردية – وأشدد على تسميتها سردية وليس قصصية – يتخذ الجسد معنى «الفخ»، وهي معالجة فلسفية ذات إطار معنوي – من المعنى – عميق، يتجنب «الحدث» ويركز على مفردة الجسد في تحولاته واصطدامه بمعوقات تحرره أو انعتاقه ؛ اللافت في هذه النصوص أنها تستلهم التصور الصوفي لانعتاق الروح من خلال إجهاد الجسد، لكن هذا الجسد لا تتم مجاهدته وإماتته بالرياضة الصوفية، ولكن بالمغالبة القاسية اللغوية والتجريبية: خلع الرأس، تحطم الأسنان، تهتك العضلات، تفتت الجمجمة، قرقعة الأصابع. كل هذه المفردات القاسية التي تحرر الروح وكأنها تُنزع بقوة من سجنها الذي هو هنا الجسد ماثلاً في تصورات سامي جريدي السردية؛ كل هذه رياضة لغوية وتجريبية. يحتفي سامي جريدي بالمشاكلة والعبثية في نصوصه، وهذا كان ظاهراً من بواكير أعماله الإبداعية ومنشوراته في مواقع التواصل الاجتماعي، فهو يحتفي بالمفردة منفصلة عن سياق المعنى، وهو بذلك يؤسس للغة خاصة تكاد تكون غير مفهومة أو مشكلة على القارئ، لكنها من ناحية أخرى ثرية وتستقصد المتعة اللغوية والثراء الاصطلاحي في تكوين النص وسبكه.
يعمد الكاتب إلى طمس المألوف وتشكيل الغرائبي في نصوصه، ما يشير إلى حصيلة أسطورية في وجدان الكاتب ترنو هي الأخرى للانعتاق من سجن اللغة والسياق والمعنى والمنطق، إلى آفاق أرحب في الهذيان اللغوي الذي يشكل المعاني والسياقات العبثية الأسطورية. في ما يخص أسلوب عرض النصوص، يتوخى الكاتب أيضاً أسلوب المشاكلة والعبثية في الطرح والتنضيد، فهو يطرح بعض النصوص مرقمة بأرقام ذات ترتيب غير متسق، ويعتمد كثيراً على العناوين الباطنية التي تستلهم التصور والمساءلة الصوفية في طرح إشكالات النصوص، وهو ما عُرف عن الكاتب في اهتمامه بهذه الأساليب في طريقة سرده واهتماماته الفنية، فهو إضافة إلى كونه ناقداً وأكاديمياً وسارداً، فهو فنان تشكيلي مفاهيمي، ونحن نعلم أن المفاهيمية تعني في إحدى معانيها فن الفكرة، وأيضاً جماليات القبح، أو التصور الصادم للشكل. هنا نجد المبرر الواضح لتشكل حصيلة الكاتب السردية، وهيمنة هذا الأسلوب على نصه الإبداعي، ما يوضح تماماً نزوعه إلى الاعتماد على فن الفكرة المتناقضة والمهشمة والمرتبكة.
إضافة إلى ما أشرنا إليه حول هيمنة فكرة الجسد المتهتك لدى سامي، تظهر بجلاء فكرة التجريب على مستوى المعنى والشكل، ما يحدث فعلاً مع نص سامي هو حال من الشرود المركز في فيض اللغة، وهو انسياب واضح لها (أي اللغة) من دون اعتبارات للدلالة المنطقية في التصور الحدثي أو التركيب من خلال الصور المنطقية، تظهر في النصوص الصور على هيئة هذيانات وأحلام يقظة مستمرة، تستلهم دوماً فكرة التهشيم للمرآة العاكسة للواقع الجواني، هذا إن صح أن نقول عنه أنه واقع، والأصح في تصوري هو أن نطلق على هذه الممارسة نوع من التشكيل اللاواعي للمعاني المتهشمة في العمق الجواني للكاتب، وهكذا يهرب الإدراك الإبداعي للكاتب من ربقة الوعي إلى تشكلات اللاوعي الفسيحة الرحبة؛ معها يتشكل نص سامي جريدي الإشكالي، الذي يستلزم الحذر في التعامل معه بغية عدم الوقوع في فخ العبثية الممتلئ بها النص المفخخ في الأصل والتركيب والممارسة.
صدر كتاب سامي جريدي «فخ» عن دار أثر 2016، وهو يقع في 80 صفحة ويحوي 40 نصاً قصيراً وقصيراً جداً. وجاء الإهداء إلى: (علقة عالقة في عقلي) بحسب تعبير الكاتب. كما أن نصوص «فخ» كُتبت بين عامي 2011- 2015 كما ذُكر ذلك في بداية الكتاب.
 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى