لُعبةُ الإبدال في «يوميات الشنفرى»

الجسرة الثقافية الالكترونية

عمر باصريح

«يا صَديقي، لُعبةُ الإبدالِ إغواءٌ.. وإغراءٌ لذيذْ
لُعبةٌ لَو أنَّ جَاري
رنَّ في مَسمعِهِ مِنها صَدًى
قَهقهتْ دُنياهُ صُبْحاً، وَانزوَى في صَمتهِ لَيلُ السَّأمْ»..
تقتضي لعبة الإبدال في ديوان «يوميات الشنفرى» للدكتور سعيد الجرير استدعاء شخصية الشنفرى في العنوان، إذ إن شخصيته تفترض إبدالات متعددة، يشبه ما فعله عدنان الصائغ في ديوانه «تأبّط منفى»، والحديث هنا جميعه عن المنفى، إذ يستدعي الصائغ شخصية «تأبّط شرّاً» في عنوان ديوانه، غير أنَّ الإبدال عند الصائغ يتخذ أسلوباً آخر ودلالات أخرى للمنفى، وتلك الدلالات تقتضي إبدالاً محدداً في الاسم أولاً؛ فأبدل «المنفى» بـ«الشر»، وهي «صعلكة» جديدة يحيل عليها العنوان الجديد، يتنزّل فيها «المنفى» منزلة «الشرّ»، ومن خلالها يقيم العنوان ارتباطات دلالية مع الاسم القديم.
ذاك الحال مع الجريري والشنفرى، إذ تتلاشى المساحة بينهما، حتى يغدو الفارق فحسب في عملية الإبدال ذاتها التي اختارها كلٌّ منهما، وإذا كان الشنفرى يؤنسن الوحوش؛ لتكون أهلاً له، تاركاً خلفه الكائنات المتوحشة من بني قومه التي لا تكف عن الأذى «أي عن الوحشنة»، فإن الجريري اشتغل على ذات البُعد الإنساني الذي يشترك فيه وطنه «حضرموت» مع المنفى «هولندا»، ورأى في المنفى أهلاً آخرين، تاركاً وراء ظهره الكائنات المتوحشة من بني قومه التي تركها الشنفرى ذات يوم، والديوان يتحدّث كثيراً عن البُعد الإنساني.
وسنرى هنا توظيفات هذه «اللعبة الشعرية» في النصوص، وطرائق اشتغالها في إنتاج شعرية الديوان. أولاً، الإبدال على مستوى اللغة: والمقصود هنا هو أن يستعمل الشاعر دلالة أخرى للكلمة سياقياً تختلف عن دلالتها المعتادة؛ في محاولة لاستثمار طاقات دلالية أخرى للغة الشعرية، ولعلنا نلاحظ بعض النماذج على ذلك:
أمستردامُ/ ضاقَ الأُفقُ بيْ/ فأَتيتُ/ فَرداً/ ليسَ يُؤيهِ زِحامُ/ فَضُمِّيني، أمستردام.
في حديث الشنفرى هنا تتكرر جملة «ضاق الأفق بي» ثلاثاً، وهي جملة لا تخلو من إبدال، إذ إن «الأفق» لا يحيل – معجميّاً – على الضيق، وإنما يحيل على الاتساع في الرؤية والمدى البعيد، ولعلّ «الأفق» كان المقابل الضمني للأرض التي رأى فيها الشنفرى قديماً منأى له من الأذى، غير أنَّ النص هنا يبدله بدلالة أخرى تقوم شعريتها على تضخيم حالة الانسداد التي تكتسب ضخامتها من «الأفق» الذي لم يعد يتسع للشاعر، وإنما أصبح يؤدّي وظيفة التضييق عليه؛ مما يجعله أقدر على تأدية وظيفته الاستعطافية التي يتجاوب صداها في الذات الأخرى «أمستردام»، التي تجيب:
أَقْبِلْ…/ صُدُورُ مَطيِّهمْ/ أَنأَى إليكَ… وَدرْبُها غِرْبَانُ/ والكونُ مَنأى للكريمِ،/ فَلُذْ بِشَمْسي،/ لستُ كالصحراء…».
وإبدال الدلالة في «الأفق» سياقياً، يشبهها الإبدال في وصفه للمطر بأنه لذيذ في نص آخر «المطر اللذيذ»، وال مطر لا يُوصف بأنه لذيذ، إذ إنه مدرك بصري أو سمعي، وفي درجات الصفر للكتابة – بتعبير بارت – يُحدّد بأنه «مطر منهمر، أو غزير أو غيرها»، غير أن وصفه بأنه «لذيذ» يمثّل إبدالاً في آلية تلقي المطر شعرياً، من خلال وضع حاسة مكان حاسّة أخرى، والاستجابة للمطر بوصفه مدركاً ذوقياً، يكشف، عن إبدال آخر لـ«الشنفرى» على مستوى اللغة والتلقي للأشياء من حوله في المنفى، وهو يتعاضد مع وظائف إبدالات أخرى في خلق شعرية الديوان.
ثانياً، الإبدال على مستوى الذوات:
هذا الإبدال اللغوي في نصوص الديوان يتآزر سياقياً مع إبدال آخر على مستوى الذوات، إذ يظهر الشنفرى في بداية النص يناجي «أمستردام» من خلال تكرار النداء الذي يعتمد أداة محذوفة، وحذف الأداة يُستخدم بلاغياً لنداء القريب مسافةً أو منزلة، ولكنه هنا يقوم بوظيفة التقريب أيضاً، ثم يُخلي مكانه لذات أخرى تتجاوب معه هي (أمستردام)، إذ يســـتنطقها النــــص بوصفها ذاتاً أخرى، كما أنها تحيــــل في حديثــــها هي الأخرى إلى ذات أخرى لم يتح لها مجال للحديث: لذ بشمسي/ لستُ كالصحراء…».
وكأن الحديث هنا لعشيقتين لرجل واحد، تحاول إحداهما أن تغويه وتبعده عن الأخرى «لستُ كالصحراء»، على أن الكلام هنا لا يخلو من إبدال لغوي أيضاً، إذ إن كلمة «الشمس» ربما تكون أقرب إلى دلالة الصحراء، والصحراء لا تبخل بشمسها على مرتاديها، ولكن «أمستردام» تسحب الدلالة الإيجابية لكلمة «الشمس»، وتنسبها لنفسها «بشمسي»، بحيث تبدو الصحراء شحيحة حتى بشمسها التي تكتسب الدلالة السلبية منها، وفي حين تظهر أمستردام دافئة بشمسها، تظهر الصحراء قاسية بتحديد محذوف يضمره النص وتحيل إليه علامات الحذف وسياق الكلام. وهو التعيير الذي يظل يتردد صداه في أعماق الشنفرى في نصوص أخرى.
ثالثاً، الإبدال على مستوى المكان: تقوم شعرية الإبدال هنا في ما يخص المكان على خاصية التبادل في الأدوار بين «الوطن» و«المنفى»، وهي خاصية ترفد التبادلات على مستويي اللغة والذوات، وتقوّي شعريتها، وهي على تشكُّلين في النص:
– التشكُّل الأول: الوطن – المنفى: وتكون فيه الصورة مقلوبة، بحيث يكون المنفى هو الوطن، والوطن هو المنفى. ولقلب الصورة؛ يعتمد النص استراتيجيات متعددة، كأن يجعل الحديث على لسان أمستردام، التي تناديه:
أَقْبِلْ…/ صُدُورُ مَطيِّهمْ/ أَنأَى إليكَ… وَدرْبُها غِرْبَانُ/ والكونُ مَنأى للكريمِ،/ فَلُذْ بِشَمْسي،/ لستُ كالصحراء…
والمفردات: «أقبلْ/ لُذْ بشمسي/ لُذْ بي/ لستُ كالصحراء»، تفترض مكانين متنافرين، أحدهما جاذب، تحيل إليه المفردات «لُذْ بشمسي/ لُذْ بي»، والآخر طارد، تحيل إليه دلالة «الصحراء»، ووصف الوطن بالصحراء هنا يجعله هو المنفى، بينما يتحوّل المنفى من خلال دلالات اللّوذ به إلى وطن. وهذان المكانان حتى وإن استنطقهما النص وتعامل معهما بوصفهما ذواتاً تتكلم كما مرّ معنا سابقاً، غير أن المحصّلة النهائية للتذويت هي المقابلة بين مكانين، وتفضيل أحدهما على الآخر، واستنطاق أمستردام يصبّ في هذا المعنى، إذ يغدو استنطاقها وجهاً آخر للكلام الذي يتبناه الشنفرى. ومثل ذلك في نص «في الحافلة».
وفي قلب الصورة هنا أيضاً تسعفه شخصية الشنفرى، التي تفترض تفضيل المنفى على الوطن، وشحنه بالدلالات الإيجابية؛ لهذا نجده في كلا النصين السابقين الذين قُلبت الصورة فيهما يتكئ على قولٍ يربطه بالشنفرى «والكون منأى للكريم»، وهي استراتيجية تناصية تقلب الصورة وتسوّغ قلبها.
– التشكُّل الثاني: المنفى/ الوطن: وهنا تعود الصورة إلى وضعها الطبيعي لدلالات الوطن والمنفى، ويستعاد فيها الوطن بجمالياته، غير أنه رجع ذاكرة يُستدعى في المنفى:
على رَجْعٍ/ يُرنّحُ في مساماتي/ احتدام الرّقص:/ «زَربَدةً»/ «هَبيشاً»/ «عِدّةً».
وهي رقصات حضرمية تشربتها مساماته، وتظل عالقة في ذاكرته بوصفها صورة إيقاعية لوطنه لا يمحوها المنفى.
وعلى رغم أن أمستردام قد أجابت بقولها: «لُذْ بي،/ ما استطعتَ،/ كم تشاااااءُ…» إلا أنَّ شنفرى الجريري ما تزال تهدهده: «مويجاتٌ/ يُفَضِّضُهَا/ قُمَيرٌ/ سَاهِرٌ/ في «خَلْفَ»/ تُرْقِصُهُ/ أغانٍ/ لا/ تنامُ».
وهي صورة استبدالية أخرى لوطن لا ينام، يظل الشنفرى مشدوداً إليه، حتى لو حاول في نصوص أخرى إخفاءه، ويظل يستدعيه على إيقاع رقصة أو أغنية أو ذكرى..
ويشبه هذا النص نصٌّ آخر في الديوان، وهو نصّ «بَشَاشَة»، إذ يعتمد الإبدال المكاني على الذاكرة في لحظة مطر لذيذ – بتعبير النص – في ريف هولندا، حتى لكأن «Overloon» البلدة الريفية الجميلة: تخرُجُ كيْ ترُشُّ دُرُوبَها/ بالورد/ و«الهايَات»/ والمطر اللذيذ.
والريف هنا يستهوي الشاعر، بل إن إهداء الديوان كان «إلى الريف الهولندي..»، ومن هنا يأتي الربط والاستدعاء عند الشاعر لوطنه، فهو ابن الريف أيضاً، وكل ريفٍ جميل يجد فيه ريفه الأول، الذي يجد فيه الصورة النقيّة لوطنه؛ لذا يأتي الإبدال الشعري هنا مباشرة:
في كُلّ دَرْبٍ،/ ابتساماتٌ تُذكّرُني ابتساماتٍ/ عذارى/ في نواحي حضرموتْ/ أيام…؟.
ووصف الابتسامات المستدعاة بـ«العذارى» يحيل على بُعد ثقافي يحمل براءةً عربية، تتصل بالبراءة الريفية التي أشرتُ إليها آنفاً، ويستخدمها الشنفرى للتعبير عن أيام سالفة غير محددة، يخفيها الحذف، وحينما يسأل قارئٌ ضمنيٌّ الشنفرى عن هويّة تلك الأيام البريّة، يجيب: لا أدريْ، ولكن/ كانَ في وادٍ، هُنَاااااااااكْ/ زَرْعٌ/ وماءٌ/ وعذارى/ تُشعلُ الدربَ بشاشةْ/ والسماءْ…/ كانتْ تغِيمُ،/ وكان طِفْلٌ/ كلما غامتْ سماءٌ،/ أشعلَ الدنيا/ فنثَّتْ ورْدَها/ كُلُّ النواحيْ،/ وانتشى درْبُ العطَاشَى.
و«وادٍ، وزرع، وماء، وعذارى» مفردات مستدعاة من نصوص عربية تراثية، لها ذاكرة ممتلئة بالخير والجمال والعشق، يضيف لها النصّ «الغيم، والطفل، والنثيث»، ويستخدمها في رسم صورة لوطنه، تقوّي ذاكرة تلك الكلمات التراثية المستدعاة وتربطها بدرب البشاشة.
غير أن ذاك الدرب تلاشى، وتحوّل إلى صور متناثرة تحاول ذاكرة المنفى تجميعها، وجعلُ الحروف متناثرة في نهاية النصّ يحيل على تناثر ذلك الدرب وتلاشيه:
يااااااااه/ يا دَرْباً/ تَ/ لَ/ ا/ شَ/ ى.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى