في الأصل سورية: نجاة الصغيرة.. سيرة عبقرية الحياة والطرب

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد الحمامصي

يأتي هذا السفر المصور المبهر “نجاة الصغيرة” للكاتبة رحاب خالد والصادر عن دار الكرمة احتفاء بالمطربة والفنانة الجميلة نجاة والتي بلغت أخيرا عامها الـ 80 باعتبارها واحدة من أهم وأنجح نجمات الغناء العربي، فيحكي بأسلوب سردي راق سيرتها الفنية والشخصية الفريدة والمتميزة في تفاصيلها، منذ طفولتها في بيت شجع المواهب، فاحترف أطفاله الموسيقى والغناء والتمثيل، حتى اعتزالها وهي في قمة تألقها.

ويتناول حياتها العائلية، ودورها في حمل مسئولية الأسرة في وقت أزماتها وهي لا تزال طفلة، وتطورها الفني، وعلاقاتها المهنية، في أسلوب سردي ممتع يتناسب وشخصية نجاة العبقرية، ومن خلال تصميم فني جذاب وأنيق.

يتميز الإصدار الفاخر باحتوائه على أكثر من 270 صورة رائعة ونادرة بالأبيض والأسود وبالألوان، لنجاة منذ كانت في سن الثانية تجلس فوق كرسي ليقترب رأسها من قامة شقيقيها فاروق وسميرة.

وتتوالى الصور بالأبيض والأسود وصولا إلى صور ملونة إحداها في حفل تكريمها بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 1984 وصور أخرى وهي تحيي حفلين بمهرجان قرطاج عامي 1999 و2001 حيث تقلدت في المهرجان الأخير وسام الاستحقاق الثقافي التونسي من الدرجة الأولى، بالإضافة إلى أغلفة الأسطوانات وإعلانات الحفلات والأفلام والكاريكاتيرات وأغلفة المجلات.

وتفيض كل صفحة من صفحات الكتاب البالغة 183 صفحة من القطع الكبير بالحياة والحكايات التي تروي سيرة هذه الفنانة الكبيرة، وتجمع أيضًا عديدًا من الأقوال لأهم النقاد والفنانين والشخصيات العامة حول المحطات المهمة في حياة نجاة الفنية.

أيضا الكتاب يشكل ثبتا كاملا ومفصلا لجميع أعمال نجاة الغنائية والسينمائية، ويوضح بصورة لا تقبل الشك أهمية نجاة في مسيرة الفن والغناء العربيين.

• معهد الموسيقى

تفتتح الكاتبة رحاب خالد الكتاب بعنوان “معجزة” حيث الدخول الأول لنجاة إلى عالم الغناء، تقول “الصالون واسع فخيم ومشاهير الموسيقيين مجتمعون لندوة بمعهد الموسيقى، وفي أحد الأركان يقف تلميذ لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، يحمل بإحدى يديه حقيبة للكمان وباليد الأخرى تتعلق طفلة صغيرة.

وقد جلس أمامهما مدير المعهد، مصطفى بك رضا، يستمع باهتمام لما يرويه التلميذ عن موهبة شقيقته، ولما كان يتعجل العودة إلى ضيوفه. فقد قاطعه ليسألها: إنت صحيح بتعرفي تغني؟ وفورا جاء رد شقيقها بالإجابة: دي حافظة كل أغاني أم كلثوم.

وتحس الصغيرة بشيء من الرهبة عندما يطلب منها مصطفى بك أن تسمعه شيئا مما تحفظ، فيهمس لها شقيقها بما يجعلها تبلل شفتيها بطرف لسانها وتبدأ تغني قصيدة “أراك عصي الدمع” وهنا يلتفت إليها الحاضرون جميعا، ينظرون إليها في إعجاب، وينظر بعضهم إلى بعض في دهشة، وما إن تنتهي من الغناء حتى يحملها مصطفى بك ويظل يقبلها وهو يقول “دي مفاجأة كبيرة جدا، أنا لازم أخليها تغني في حفلة المعهد، دي معجزة”.

ومنذ تلك الليلة ونجاة تسأل شقيقها في كل يوم عن موعد الحفلة وتقول “أنا عايزة أغني وأبقى زي أم كلثوم”.

• من دمشق للقاهرة

كان والد نجاة الخطاط الفنان محمد حسني لا يزال في السابعة من عمره يتلقي مبادئ القراءة والكتابة في منزل أسرته بمدينة دمشق التي ولد بها عام 1894 وكان والده محمد بن أمين أحد أفراد عائلة البابا العريقة ببلاد الشام، يشتغل بالحياكة والتطريز، ولما رأى انصراف ولده عن المدرسة واستعداده لدراسة الخط العربي، ألحقه في 1906 بمكتب الخطاط التركي يوسف أفندي رسا إلى جوار الجامع الأموي الكبير.

وبعد عام واحد، وجد الصبي لوحة بخطة أستاذه مكتوبا عليها الحديث الشريف “أشراف أمتي حملة القرآن” فأحضر ورقة بيضاء وقلد اللوحة، ثم ذهب بها إلى أستاذه الذي قال له “نعم نعم لقد أجدنا في كتابتها إجادة كبيرة” ولما أخبره الصبي أنه هو الذي كتبها لم يصدقه، ولكن بعد أن تحقق من ذلك أنهى خدمته عنده، فاحترف الصبي عقب وفاة والده في العام نفسه وكان بعد ذلك في الرابعة عشرة من عمره. ولسنوات بعدها اشتغل منفردا ومع آخرين حتى أقنعه صديق له يدعى محمد الهندي بالهجرة إلى حيث نهضة الفنون والآداب والمجال الأوسع لمزاولة الخط العربي.

فرحل إلى مصر مع نهاية عام 1912 وتعاون أولا مع شيخ الختامين الخطاط عبد الرحمن حافظ في صنع الأختام واللافتات والأكليشيهات، ثم تعرف إلى صاحب مطبعة الرغائب السيد عبدالعزيز الجابري. وكتب له الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم المأثورة. وأيضا إعلانات وعناوين الكتب وخطوط بعض الجرائد والمجلات. وعرف بأسلوبه الفريد في التركيب الخطي أو كما يسميه “الموسيقى الخطية” وصار له من كبار الخطاطين أصدقاء يقبلون عليه كأنهم أهله وزملاء وتلاميذ مخلصون بمدرسة تحسين الخطوط الملكية، ثم مكتب شهير للخطوط في ميدان إبراهيم باشا بحي عابدين، وشقة ذات ست حجرات تطل شرفاتها على الميدان وثمانية أبناء أذكياء موهوبين، لم يعلم أحدا منهم في مدارس لاعتقاده أنها تفسد المواهب، وربما وجد فيهم واحدا غبيا لما تردد في إلحاقه بالمدرسة”.

ولدت نجاة في ييوم 11 أغسطس/آب 1936 وكان ذلك بمنزل الأسرة رقم 43 بشارع إبراهيم باشا وما كادت تنطق الحروف حتى بدأت تغني.

• لقاء نجاة بأم كلثوم

تعلقت نجاة براديو أم كلثوم وسهرت الليالي فكانت تجلس لطعام العشاء ولا تأكل ثم تأوي إلى فراشها ولا تنام، وفي الصباح تردد ما حفظته في الليل وكأنها شريط مسجل، حتى إن أخطأت أم كلثوم. كانت نجاة تقلدها في خطئها.

ولما أرادت أن تراها على المسرح، وهي تغني، ألحت على والدها أياما كي يحملها مع أشقائها إلى حديقة الأزبكية. كان يظن أنها ستغفو في مقعدها وسط الجمهور، ولكنها ظلت طوال السهرة تشب برأسها فوق الطرابيش والعمائم فتلمح منديلا أحمر تعتصره يد قوية وصوت قوي وتجد نفسها بلا وعي تصاحب أم كلثوم في غنائها.

كانت الحفلات الرسمية عادة ما تخصص فقرة الأناشيد للأطفال بالذات في المواسم الدينية والمناسبات الوطنية، وذات ليلة في حفلة للإذاعة تحييها أم كلثوم على مسرح الأزبكية، كان ضمن البروجرام نشيد غنته نجاة مع بطانتها من الأطفال، ثم توالت الفقرات وتأخرت أم كلثوم حتى ظن المشرفون على الحفلة أنها لن تحضر.

فاستعانوا بنجاة لتقدم الأغنية التي كان من المفترض أن تغنيها أم كلثوم في وصلتها الأولى، وهي “غلبت أصالح في روحي” وبينما يصفق الجمهور للصغيرة ويستعيدها، ترتبك نجاة فجأة وينتفض جسدها. وقد رأت أم كلثوم جالسة على مقعد في الكواليس تنصت إليها، وهي تغني أغنيتها، فكادت أن تتوقف عن الغناء، لولا أن رأت أم كلثوم تضم لها يديها مشجعة، فاستعادت أنفاسها وغنت كما لم تغن من قبل، ولما انتهت تركت التصفيق والهتاف وراءها لتجري نحو أم كلثوم التي فتحت لها ذراعيها واحتضنتها ثم أجلستها على ساقيها وظلت تقبلها..

ليلتها رأت فيها أم كلثوم نفسها عندما كانت صبية صغيرة تنتقل بين القرى مع والدها الشيخ إبراهيم وشقيقها خالد وابن عمها صابر، تنشد معهم التواشيح الدينية في الموالد مقابل قروش قليلة.

وتسجل رحاب خالد أن نجاة بدأت نجمة إذ تورد صورة ضوئية من تقرير مصور شغل صفحتين في مجلة “الاثنين والدنيا” بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 1942 تحت عنوان “خليفة أم كلثوم”. وجاء فيه أن “المطربة الصغيرة نجاة” وقفت في حفل إذاعي نظمه نادي الموسيقى الشرقي لأداء أغنية “غني يا كروان” فلم يبال بها أحد وبعد أن تمايلت وسرى صوتها في الحفل “استدارت الأعناق.. وانتهت الأغنية ففقد الجمهور صوابه” وطالبها بالإعادة. وأن الكاتب الصحفي فكري أباظة طالب الحكومة برعايتها بعد أن سمعها تؤدي أغاني أم كلثوم “سلوا قلبي” و”غني لي شوي شوي” و”حبيبي يسعد أوقاته” وأيده عملاق الطرب محمد عبدالوهاب فأطلق عليها أشقاؤها لقب “بنت الحكومة” ثم حملت الإعلانات عن حفلاتها بالقاهرة ألقابا منها “مطربة الجيل الجديد” ثم كان لقب “نجاة الصغيرة” تمييزا لها عن المطربة المصرية نجاة علي “1910-1993” التي كانت شهيرة آنذاك وشاركت عبدالوهاب بطولة فيلم “دموع الحب” عام 1935.

وفي 18 يناير/كانون الثاني 1947 نشرت صحيفة “أخبار اليوم” إعلانا عن اقتراب عرض فيلم “هدية” لمحمود ذو الفقار وتضمن صورة لنجاة “معجزة الجيل الجديد نجاة الصغيرة” وتوالت أدوارها السينمائية في أفلام “الكل يغني” لعز الدين ذو الفقار 1947 أما أول بطولة فكانت أمام الممثل الكوميدي إسماعيل ياسين عام 1954 في فيلم “بنت البلد” لحسن الصيفي.

• نجاة ونزار قباني

عندما خرجت أغنية “أيظن” كلمات نزار قباني وألحان محمد عبدالوهاب كان قباني في الصين، تقول رحاب خالد “وفي هذه الأثناء ظل نزار قباني في بكين يتلقى التهاني بأغنية “أيظن” التي لم يسمعها بعد، فكتب إلى نجاة يقول “أيتها الصديقة الغالية، لا أزال في آخر الدنيا أنتظر الشريط الذي يحمل أغنيتنا “أيظن” إنها تعيش في الصحف، في السهرات، وعلى شفاه الأدباء، وفي كل زاوية في الأرض العربية، وأبقى أنا محروما من الأحرف التي أكلت أعصابي. يا لك من أم قاسية يا نجاة. أريت المولود الجميل لكل إنسان وتغنيت بجماله في كل مكان وتركت أباه يشرب الشاي في بكين، ويحلم بطفل أزرق العينين يعيش مع أمه في القاهرة. لا تضحكي يا نجاة إذا طلبت ممارسة أبوتي، فأنا لا يمكن أن أقتنع بتلقي رسائل التهنئة بالمولود حالا لدى وصول رسالتي، وضعي المولود في طرد بريد صغير وابعثي به إلى عنواني. إذا فعلت هذا كنت أما عن حق وحقيق، أما إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة رغم معرفتي أنك تكرهينه”.

وتضيف رحاب خالد أنه بعد شهر تقريبا يأتي لنزار الملحق العسكري المصري في بكين ليسلمه شريط نجاة، فيدعو زملاءه إلى حفل في السفارة لسماع الأغنية، ثم يتضح أن سرعة تسجيل الشريط تختلف عن سرعة جهاز الاستماع، فيلجأ إلى استوديوهات إذاعة بكين ليستمع إلى قصيدته لأول مرة بعد شهرين من إذاعتها في القاهرة.

وتستمر رحاب خالد في سرد سيرة نجاة لتقدم حياة حافلة بالجمال والأناقة والكفاح، حياة حافلة بحب الفن والطرب الأصيل، وإنني كقارئ لأتمنى على مطربي ومطربات هذا الجيل مصريا وعربيا أن يقرأوا هذه السيرة الرائعة لعلهم يعيدون النظر في حيواتهم وما يقدمونه من أعمال أصابت الذوق العام بالرداءة والهبوط.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى