«شباب» للإيطالي باولو سورنتينو: البحث عن الذات في عيون الآخرين

الجسرة الثقافية الالكترونية

عماد الدين عبد الرزاق

 

هذا هو ثاني فيلم ناطق بالإنكليزية للمخرج الإيطالي باولو سورنتينو، يقــــدم وليمة سينمائية مبــــهرة بصريا وفكريا. الفيلم الذي نافس على جائزة «السعفة الذهبية» في مهرجان «كان» العام الماضي، حصل على جائزة أفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل ممثل، التي ذهبت لماكيل كين، في مهرجان الفيلم الأوروبي الثامن والعشرين (2015).
لا يوحي اسم الفيلم «شباب Youth» بالكثير وقد لا يشجع حتى على مشاهدته. وهو ليس فيلما تقليديا ينسج قصة متماسكة ذات بداية ووسط ونهاية، وما من حدث رئيسي متطور، مترابط الحلقات يمكن متابعته، فما من شيء يحدث معظم الوقت في هذا الفندق الفخم تحت سفوح جبال الألب في منتجع سويسري زاخر بكل ما تجود به الطبيعة من جمال أخاذ. الفندق يضم مجموعة من الشخصيات المتنافرة، بعضها مغرق في الغرابة، لا يجمع بينها شيء سوى المكان الذي يعتبر جنة للاستجمام. الشخصيات الرئيسية تضم المؤلف الموسيقي والمايسترو المتقاعد «فرد بالينجر» (ماكيل كين)، الذي يتردد على المنتجع منذ سنين وقد جاء بصحبة ابنته «لينا» (راتشيل فايس) وهي أيضا مديرة أعماله، ومتزوجة من ابن صديقه المخرج السينمائي «مايك بويل» (هارفي كايتل) الذي جاء بدوره للمنتجع بصحبة مجموعة من الشباب يعملون على الانتهاء من سيناريو فيلم جديد يطمح «مايك» أن يختم به مشواره السينمائي الحافل.
هناك ممثل شاب «جيمي تري» (بول دانو) حقق شهرة لا بأس بها، لكنه دائم التبرم لأن أحدا لا يتذكره إلا من خلال دور «إنسان آلي- روبوت» وهو أمر يؤلمه كثيرا، ويحاول ان يعزي نفسه بأن يجد وجه شبه بينه وبين الموسيقي «فرد» فيقول له أنه هو أيضا ألف أعمالا رائعة عديدة، لكن أحدا لا يتذكره إلا من خلال مقطوعة «أغاني بسيطة Simple Songs»، وإن كان «فرد» نفسه ينظر إلى عمله بشكل مختلف تماما. نلتقــــي أيضا لاعــــب كرة قدم بدينا معتزلا، شبيه النجم الأرجنتيني مارادونا، يحمل على ظهره وشما ضخما لـ«كارل ماركس»، راهب بوذي لديه قدرة خارقة على الارتفـــاع في الهواء في وضع التعبد، أخصائية علاج طبيعي مغرمة بتقليد شخصيات أفلام الرسوم المتحركة رقصا. وملكة جمال الكون التي تفضل الاستحمام عارية. وشيخ مفتول العضلات متخصص في تسلق الجبال وتدريب الراغبين في تعلم تلك الرياضة.

ألا ليت الشباب يعود يوما….

التناقض الصارخ بين الشباب والشيخوخة ماثل أمامنا طوال الفيلم، سواء من خلال الشخصيات أو اللقطات والمشاهد التي تنتقل بينها كاميرا مدير التصوير لوقا بيغازي، وتبدو كلوحات فنية اختيرت تفاصيلها بعناية وأحيانا كمنحوتات أخاذة. نتابع المخرج «مايك» والموسيقي « فرد» في حواراتهما اليومية الرتيبة حول أمراض الشيخوخة (يسأل أحدهما الآخر ما إذا كان تمكن من التبول اليوم، فكلاهما يعاني من مشاكل في البروستاتا)، وحول ذكريات ماضيهما المشتركة التي يعجزان عن تذكرها. «فرد» لم يعد يتذكر وجوه أفراد عائلته، في حين أنه يرفض أن يصدق «مايك» حين يخبره أنه لا يتذكر ما إذا كان قد أقام علاقة جنسية مع امرأة كان كلاهما مغرما بها. وحين يمر بهما صبي مسرعا على دراجته الهوائية، أثناء تريضهما صباحا، يقول «مايك» إنه رغم فجوات الذاكرة التي يعاني منها إلا أن اللحظة لا يمكن أن تنمحي منها، هي أول مرة تمكن فيها من قيادة الدراجة الهوائية في طفولته. ويتساءل «فرد»: وما هي اللحظة التالية التي لا تمحى من الذاكرة؟ فيجيبه: أول مرة سقطت فيها من على الدراجة، فما من صبي يمكن أن ينسى هاتين اللحظتين. «مايك» رغم سنه المتقدمة لايزال متحمسا لإنجاز فيلمه الجديد وقد أحاط نفسه بمجموعة من الشباب منهمكين في كتابة السيناريو، ولا يجد صعوبة في التواصل معهم، في حين أن الممثل الشاب «جيمي» يبدو يائسا ومكتبئا ومحبطا كرجل في خريف العمر. في مشهد على محطة القطار الهوائي «التليفريك» يشرح «مايك» لصبي صغير الفرق بين الشباب والشيخوخة من خلال النظر إلى الجبال في الأفق عبر التليسكوب، تارة من خلال العدسة المكبرة فيراها قريبة جدا، وهذا هو المستقبل كما يراه الشباب، وتارة من خلال العدسة المصغرة فيراها بعيدة جدا، وهذا هو الماضي كما يراه الشيوخ. في مشهد يجمع «فرد» و»مايك» في حمام السباحة ليلا تنضم إليهما «ملكة جمال الكون» (مادلينا ديانا) عارية فيسأل أحدهما الآخر من تكون فيجيبه «ربنا».
هناك تناقض آخر يثقل كاهل شخصيات الفيلم الرئيسية وهو الذي ينشأ عن الهوة بين الصورة التي نرى بها أنفسنا، وتلك التي يرانا الآخرون عليها.
فكل منا له تصور عن نفسه يتمسك ويعــــتز به، وقد يصدم لو عرف كيف يراه الآخرون. هذا هو لب الصراع الذي يعاني منه الممثل الشاب «جيمي» الذي يرفض أن يراه الناس فقط من خلال دور «الروبوت» الذي اشتهر به، من بين أدوار عديدة. (هذه في الحقيقة مشكلة يعاني منها الكثير من الممثلين والنجوم في الأوساط الفنية حين يتم حصرهم في قالب أدوار بعينها يتعذر عليهم الخروج منها بسبب إصرار المخرجين عليها أو حتى بسبب نجاحهم فيها).
وذات مساء يفاجأ نزلاء الفندق بـ«جيمي» داخلا إلى المطعم أثناء العشاء وقد تقمص شخصية أدولف هتلر، بعد أن قص شعره ووضع شاربا وارتدى زيه العسكري. ونرى نظرات الاستياء بل والهلع على وجوه النزلاء.
بعد أن تودع الابنة « لينا» أباها وتذهب في عطلة مع زوجها، تعود فجأة في حالة انهيار تام، وتخبر أباها ان زوجها تركها لأنه يحب امرأة أخرى، مغنية البوب «بالوما فيث» (تظهر بشخصها في الفيلم). والسؤال الذي يضنيها أكثر من أي شيء آخر: ما الذي وجده في تلك الأخرى ليس عندي؟ وحين يواجه المخرج «مايك» ابنه طالبا منه العودة لزوجته ويرفض يسأله: ما الذي وجده لديها على وجه التحديد فيجيبه «أنها جيدة في الفراش». وحين تعرف «لينا» ذلك بعد أن ألحت على أبيها أن يخبرها بما قاله الزوج، تستشيط غضبا من وقع الصدمة. وفي مشهد لاحق تقول لأبيها فجأة وهما في الفراش: أنا فعلا جيدة في الفراش يا أبي. فيجيبها ضاحكا: أعرف ذلك.. فتسأله: كيف؟ فيجيبها: لأنك ابنتي.
حين يتلقى «فرد» دعوة من مبعوث خاص لملكة بريطانيا اليزابيث الثانية، ليقود الأوركسترا الملكي في عزف خاص لمقطوعته «أغان بسيطة» احتفالا بعيد ميلاد زوجها الأمير فيليب، يرفض الدعوة بجفاء وصلافة رغم الحاح المبعوث، بل ويرفض حتى الإفصاح عن الأسباب متعللا بأنها شخصية. وحين يعاود المبعوث المحاولة بعد عدة أيام ويلح في معرفة السبب ينفجر فيه «فرد» قائلا بغضب «لأن دور مغنية السوبرانو في هذه المقطوعة كتبته خصيصا لزوجتي، وهي لم تعد قادرة على الغناء». « فرد» الذي يرفض العرض الملكي ويصر على أنه تقاعد واعتزل الفن، نراه جالسا متأملا في مرعى بجوار الفندق يقود عزفا جماعيا متخيلا للأجراس المعلقة في رقاب الأبقار الطليقة في المرعى.
بعد أن ينتهي «مايك» من كتابة سيناريو الفيلم الجديد بعنوان « العهد Testament» وقد فصل دور البطولة فيه خصيصا للنجمة المخضرمة «برندا موريل» (النجمة جين فوندا في دور شرف)، يفاجأ بقدومها إلى المنتجع لتخبره بقرارها الاعتذار عن أداء الدور، وهي التي عملت معه في أحد عشر فيلما من أفلامه. اللقاء يتحول إلى مواجهة مؤلمة جدا، تصارحه فيها على نحو جارح أنه لم يصنع فيلما جديرا به جيدا منذ سنوات، وأنه لم يعد قادرا على صنع الأفلام بسبب تقدمه في السن، وتعلن له «السينما صارت ماضيا وقد قبلت دورا في مسلسل تلفزيوني». هذه المصارحة يكون لها وقع الصدمة القاتلة على «مايك» الذي يلقي بنفسه من نافذة غرفة الفندق منتحرا، أمام صديقه «فرد» الذي يتابعه عاجزا من دون أن يحرك ساكنا من هول الصدمة. عقب فقدان صديق عمره على هذا النحو المأساوي، يقرر «فرد» زيارة زوجته التي نكتشف أنها نزيلة مصحة للعجزة، حيث تعاني من مرض «خرف الشيخوخة المبكر» في مرحلة متقدمة جدا جعلها عاجزة تماما عن أن تدرك شيئا حولها. ومن هناك يغادر مباشرة إلى لندن ليقود الأوركسترا في معزوفته الشهيرة «أغان بسيطة» أمام الملكة اليزابيث احتفالا بعيد ميلاد زوجها، وتؤدي دور السوبرانو مغنية آسيوية شابة، يتقاطع وجهها مع وجه زوجته في أوج مجدها الغنائي، ومشهد ابنته «لينا» بصحبة متسلق الجبال وقد جمعهما عناق حميم خلال تدربها على التسلق، ونرى الممثل الشاب «جيمي» وسط الجمهور وقد خلع بزة هتلر وشخصيته وعاد إلى صوابه، وبالأحرى إلى ذاته كممثل أولا وأخيرا. فنحن ما نقوم به، وأفعالنا هي التي تحدد هويتنا وتصنع ما نكونه، وهي التي تحدد الكيفية التي يرانا بها الآخرين، وليس بالضرورة ما نرى نحن أنفسنا عليها. «فرد» هو المؤلف الموسيقي والمايسترو، وقد أعادته صدمة زيارة زوجته وعجزه عن أن يرى فيها المغنية والمرأة التي أحبها، أعادته إلى ذاته. و»مايك» لم يستطع تحمل صدمة أن بطلة أفلامه السابقة لم تعد ترى فيه المخرج ذاته القادر على صنع أفلام جيدة. وقد رأيناه في مشهد سريالي قبيل انتحاره واقفا في المرعى يتخيل كل شخصيات أفلامه وقد تجسدت أمامه على مرمى البصر.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى