موت الصمت المختلف

الجسرة الثقافية الالكترونية

مودي بيطار

آخر روايات اسماعيل كاداريه المترجمة مباشرة من الألبانية الى الإنكليزية تشكو كثرة السلطة في حياة الرجل الصغير. يهدي الكاتب الألباني الفرنسي «فتاة في المنفى» الصادرة عن دار هارفل سِكِر، بريطانيا، الى الشابات الألبانيات اللواتي ولدن ونشأن وأمضين صباهن في المنفى الداخلي. بطله رضيان ستيفا كاتب مسرحي شهير غضوب، بغيض، يعشق نفسه ويخون عشيقاته. تستدعيه لجنة الحزب الشيوعي للتحقيق معه في أمر يجهله. هل هي مسرحيته الأخيرة التي لم يفرج الرقيب عنها بعد، أو صديقته الطالبة ميغينا التي تشاجر معها حديثاً وضربها فارتطم رأسها برفّ الكتب؟ مدّ يده مرتين أو ثلاثاً في الماضي ليشدّها بشعرها، وها هو فعلها أخيراً بسهولة غير متوقعة. الأخطر من ذلك أنه اتهمها بأنها جاسوسة السلطة، وهذا ما يخيفه الآن. ماذا سيقول حين يسأله المحقق عن المشكلة في ذلك؟
حين تسأله اللجنة عن «هذه الفتاة» يعتقد أنها تقصد الطالبة، ويعترف بخطأه. لكنه يكتشف أن الاستنطاق يتعلّق بفتاة أخرى، ليندا ب، التي حكم على أسرتها بالنفي داخل ألبانيا عقاباً على بورجوازيتها وعلاقتها بالملك قبل الشيوعية. انتحرت ليندا ب ووجد بين مقتنياتها كتاباً لستيفا يحمل إهداءه. تعامل النظام جدياً مع الانتحار مذ أنهى رئيس الوزراء حياته (في الواقع محمد شيحو، نائب الرئيس أنور خوجا، الذي تردّد أن الثاني أمر بتصفيته). اشتاقت ليندا في البلدة الحقيرة الى حياتها في تيرانا، وخضعت لفحص طبي وهي تأمل بأن تكون مصابة بسرطان الثدي لأنه وسيلتها الوحيدة للعودة الى العاصمة. رأت في رضيان الإثارة الثقافية المدينية التي تتطلّع اليها، فطلبت ميغينا، زميلة المدرسة السابقة، منه كتابة إهداء على أحد كتبه الى ليندا. بات تعويذتها وأغلى مقتنياتها وطريقها الخاص الى الحرية، وحين عرفت أن ميغينا أيضاً أحبت رضيان وباتت عشيقته وجدت العلاقة وسيلة للاتصال المباشر بحبيبها على رغم غيرتها، وجعلت ميغينا «ممثلتها» فيها. تثير قضية رضيان فضول «القائد» الذي يجد نفسه في وصف الكاتب الوحدة. بدأ يخرف، لكن ذلك لم يضعف قبضته الحديد على البلاد.
تدور الرواية التي تقل عن مئتي صفحة بين أوائل الثمانينات وآخر الألفية الماضية، وتنتهي بمتظاهرين مبتهجين يطيحون تماثيل الحكام الطغاة في الشوارع. يقدّم كاداريه مشاهد من حياة لا تحتمل في ظل هؤلاء، ومن شخصياته شبح يخالف الواقعية الاجتماعية للأيديولوجية الشيوعية ويشهد في محكمة، لكن لا قاتله يسمع صوته ولا أصحاب القرار. يذكر الكاتب بقع الدم في غرف التحقيق، ويسمّي مقهى باسمه الأصلي قبل أن يشنّ النظام «حملة أيديولوجية» على المقاهي.
يفصّل كاداريه التحقيق، ويورد مقاطع من مسرحية بطله، ويمزج التأملات والأحلام وخرافة أورفيوس ويوريديس. في مقابلة مع «باريس ريفيو» في 1998، قال إنه حاول تركيب المأساة الكبيرة والغريب البشع. وجد الشهرة في السابعة والعشرين عن «جنرال الجيش الميت» التي تناول فيها جنرالاً إيطالياً يبحث في تلال ألبانيا الوعرة عن قتلى الحرب من جنود بلاده. لفت خوجا الذي اعتبر نفسه أديباً وصديق الكُتّاب، وقرّر كاداريه أن حياته أهم من تكون رمزاً. قبِل أن يكون نائباً في البرلمان بين 1970 و1982، وقال في المقابلة أنه كان أمام ثلاثة خيارات. أن يتمسّك بمبادئه ويموت، يصمت تماماً ويموت موتاً مختلفاً، أو يدفع جزية أو رشوة. دفعه الخيار الثالث الى كتابة أعمال تفرح قلب النظام مثل «الشتاء الكبير» التي دافعت عن خوجا، و «قصر الأحلام» التي فُسّرت فيها أحلام المواطنين ودارت في عهد الإمبراطورية العثمانية. نُشِرت في أول الثمانينات، ومُنِعت بعد نفاد النسخ في فعل بوليسي عبثي خالص.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى