ألف كاميرا واللجوء واحد… معرض «لحظة 2» يعرض حكاية النزوح السوري في لبنان

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد حنون

كانت البداية في عام 2007، حين قامت جمعية ذاكرة، التي أسسها المصور الصحافي اللبناني رمزي حيدر، بمنح 500 طفل فلسطيني لاجئ من الجنسين في مخيمات لبنان، كاميرات فوتوغرافية فيلمية، تستخدم لمرة واحدة وقابلة للرمي، وتدريبهم على استخدامها. كانت الفكرة أن يقوم الأطفال بتصوير عالمهم كما يرونه هم، وحيث لهم الأفضلية على أي مصور محترف، مهما كان متمكنا من كاميراه، إذ يمكنهم أن يلتقطوا صورا أكثر عفوية وأكثر قربا من المشهد.
كانت نتائج المشروع يومئذ ناجحة جدا واستثنائية، وقد أقيم معرض لهذه الصور في أكثر من مكان في العالم، وصدر مجلد ملون للصور بعنوان «لحظة»، وفيه كذلك أسماء الأطفال المشاركين والمشرفين على هذه التجربة.
بعد مرور 8 سنوات، تعيد جمعية ذاكرة اللبنانية التجربة بكل معطياتها، ولكن هذه المرة مع اللاجئين السوريين، وبالعدد نفسه، حيث تم اختيار 500 طفل سوري ومنحهم 500 كاميرا من النوع ذاته للقيام بالمهمة ذاتها، وتدريبهم عليها من قبل فريق جمعية ذاكرة، وأُنجز المشروع في عام 2015 وكانت النتائج صورا استثنائية أيضا. عرضت الصور مؤخرا في عدة مدن منها زيوريخ ونيويورك، وقبل ذلك في بيروت بشراكة مع اليونيسيف، ثم تنقل المعرض ليصل حاليا إلى العاصمة الأردنية عمان، حيث افتتح يوم الأحد الماضي في مركز الأميرة هيا الثقافي، ضمن مهرجان الصورة السنوي، الذي أطلقه المركز الثقافي الفرنسي منذ 5 سنوات، مع عرض فيلم وثائقي حول التجربة.
حملت الصور خصائص ما يمكن تصنيفه بالفوتوغراف الوثائقي، التي أظهرت تفاصيل الحياة اليومية للاجئين السوريين وعائلاتهم في مخيمات النزوح السوري العشوائية في لبنان، في خيام صنعها السوريون من بقايا إعلانات مطبوعة على الأقمشة ولوحات الفليكس، ومن بقايا صناديق الكرتون. توثق الصور مشاهد مختلفة، ما بين صورة تجمع عائلة، أو مشهد لعروس في يوم زفافها، ثم ترى مجموعة أطفال يقفزون فوق بِرك طينية، أو نساء يقمن بنشر الغسيل أو الطبخ، ناهيك عن صور توثق تفاصيل الخيم من الداخل، وأخرى توثق أمكنة اللعب، وإن كانت أمكنة بسيطة كمساحة طينية بين خيمتين، إلا أنها تشكل بالنسبة لهم عالما فسيحا من الفرح على الرغم من فداحة الواقع. وجوه حائرة تبحث عن أمل في ركام اليوم، وجوه ضاحكة تحاول أن تنسى هموم الأمس، وأخرى تنطق بالحُزن تسكنها هواجس الغد. خيمة مهترئة وممزقة، متشحة بسخام الوقت، ولكنها لا تزال منتصبة تُعاند الريح؛ تقف أمامها طفلة واضعة كفيها في معطفها وهي تميل نحو الفراغ، وفي عينيها نظرة مشتتة وكأنها لا تزال تحاول فهم الذي جرى. طفلة أخرى تقف أمام خيمة العائلة مبتسمة وفَرِحة بالزائر الأبيض الذي جعل بعض سواد الواقع الذي تعيشه أبيض. أطفال يخوضون سوق العمل مبكرا، في حين أنه يفترض بهم أن يكونوا إما في المدرسة أو في بيوت دافئة وآمنة. صور كثيرة تجاوزت الـ150 ، التقطت بعدسة أطفال لم يتجاوزوا الثانية عشرة من أعمارهم. للأطفال مقدرة على رؤية الأشياء بعين الدهشة، فكل ما حولهم يدهشهم، ويرونه بطريقتهم الخاصة، وهو ما فقده الكبار مع الوقت. وثمة تفاصيل في المشهد ككل لا تلتقطها إلا تلك العين العفوية، تلك العين التي تعيش في المكان وتعرف خباياه وحكاياه. كانت هذه التجربة بمثابة مواجهة لهؤلاء الأطفال مع واقعهم وفهمه من خلال توثيقه والتواصل مع الآخرين، وكذلك طريقة مُثلى للتعبير عن أنفسهم، وما يعتمل فيها من خلال الاشتباك بصريا مع مجتمعهم الجديد الذي فُرض على طفولتهم.
تحضرني الآن تجربتان مماثلتان، التجربة الأولى، للفوتوغرافية البريطانية زانا بريسكي، التي قامت بالتجربة ذاتها مع أطفال في كالكوتا الهندية، وأنتجت فيلما وثائقيا كذلك حول التجربة بعنوان «ولدوا في بيت بغاء.. أطفال إشارة كالكوتا الحمراء» وهي تجربة مبكرة والأولى من نوعها وفكرتها في عام 2004. كانت النتائج مذهلة من حيث وقعها على حياة أولئك الأطفال، ومن حيث الصور التي قاموا بالتقاطها في بيوتهم وفي مجتمعهم، وحصل الفيلم الوثائقي كذلك على جائزة الأوسكار للأفلام الوثائقية في عام 2004. التجربة الثانية وقد تلت تجربة الفوتوغرافية بريسكي، كانت للمجلة الفوتوغرافية الأشهر وهي مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» في عام 2005، حيث بدأت المجلة بعقد مخيمات تصوير للأطفال حول العالم، وقد كنت مشاركا كأحد المدربين مع فريق المجلة في مخيم التصوير في الأردن. تقوم مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» بإشراك مختصين في علم النفس وسلوك الأطفال الذين تعرضوا للإساءة أو عاشوا تجربة اللجوء والحرب. من خلال فريق متكامل فنيا فوتوغرافيا ونفسيا وإداريا يتم تجهيز منهج لكل مخيم تصوير يتلاءم مع واقع الفئة التي سيتم إشراكها في المخيم، وقد كانت النتائج ناجحة جدا على أكثر من صعيد.
يُسجل لجمعية ذاكرة اللبنانية هذا الإنجاز الثاني، بعد الإنجاز الأول مع اللاجئين الفلسطينيين في عام 2007، الذي حتما شكل فرقا في حياة أولئك الأطفال. مثل هذه التجارب تشكل حالة معرفية/علاجية تعمل على مساعدة الأطفال، ولو جزئيا، على استعادة سويتهم النفسية، التي اضطربت حتما بسبب الواقع غير الإنساني الذي يعيشونه، وتساعدهم على إعادة الاتصال مع محيطهم ومع ذواتهم، ناهيك عن النتائج المستقبلية التي قد تكون بدأت بالنمو في داخلهم من خلال تجربة التصوير الفوتوغرافي.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى