فول أسود..للقاصة تغريد أبو شاور

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

تقول أم حمدي “اللي باعك بالفول، بيعه بالقشور”ودللت على ذلك ببساطة وقرمت قرن فول بين يديها قسمين ولاكته في فمها ثم بصقته في ساحة بيتها الترابية. فضج حوش بيتها بضحك كل نساء الظهيرة اللواتي اتخذنه خانًا يعبرن به، لأخذ قسط من الراحة، والتزود بأخبار الحارة بعد التجول لساعات يومية في سوق الخضار. إلا فريدة، كانت الوحيدة التي لم تضحك على مشهد أم حمدي الدرامي…
حملت أكياس الفول مغادرة الحوش تتعثر بتنورتها “البلاسيه” المكسرة كما خطواتها، وتشتم أم حمدي العجوز “أم شيبة زرقا” كما كان يشفي غليلها بأن تكنيها بذلك… وما أن تعود فريدة إلى البيت حتى تضع أكياس الخضار التي اعتادت أن تحملها عن أمها التي تظل عند أم حمدي والجارات، حتى يختمن كل البيوت قبل الغذاء . تضع فريدة منديلها عن رأسها وترميه مع كراسات التلاميذ الخضراء على سريرها الحديدي الممدود كنعش كما كانت تصفه في قصصها التي كتبتها في مجلة الجامعة قبل أن تتخرج وتعود رغمًا عنها إلى القرية لتقضي دين والدها بعملها في مدرسة حكومية لا تعدو أكثر من طابق وغرف صغيرة بعدد طلبة لا يتجاوز الخمسين. تلتقط الراديو الصغير وتقلب في موجاته تستمع إلى برنامج الظهيرة، الذي يبث كالعادة رسائل ووعود المحبين في الغربة، فتغلقه لتضع شريطًا لأم كلثوم وتبدأ بشطف الدار وهي تردد بصوت مرتفع “يِمنِّي قلبي بالأفراح وأرجع وقلبي كله جِراح “تعدل قامتها لتقف جانب شجرة التين، ثم تلتفت من حوش البيت إلى المطبخ عبر النافذه القصيرة، تخطو نحوه حاملة معها الراديو تحت إبطها ، ثم تسنده بكيس الأرز ، حيث تبدأ بتحضير طعام الغذاء الذي استلمته عن أمها بعد تخرجها في الجامعة، وعودتها إلى القرية النحس على حد وصفها. تقف مُفتحةً أكياس الخضار، تجهز أربع حبات بندورة وقرن فلفل وفصوص ثوم ، فهي خطوطها الرئيسة لأي طبق منذ عادت. ينتهي الأمر عند الكيس الأخير، تفتحه فيفاجئها الفول وقد اسوَدَّت قشوره، فتتذكر مقولة أم حمدي فتشتمها ” أم شيبة زرقا، قال فول وقشور قال ؟!!” ثم تعود لتغني بصوت أعلى مع أم كلثوم و تأخذ بقرون الفول تقطعها بكل عصبية، وتزداد عصبيتها أكثر كلما وصلت إلى (وعود ما تصدق ولا تنصان ، وعود مع اللي مالهوش أمان (ما أن تقترب من آخر كلمة حتى تسمع طرقًا سريعًا على الباب، ووقع أقدام لاهثة صلبة رغم خفتها، وذراع قاسية رغم نحولها تضرب على زر التشغيل في المسجل، فيتعثر صوت أم كلثوم مرات قبل أن يتوقف، وترتطم حبات البندورة الأربع بأرض المطبخ الأسمنتية، ثم تصير هريسًا تحت وقع قدمي الرجل الذي بلحظات قبض على عنق فريدة، وألصقها بالحائط و كاد يُقبلها قبل أن يقول لها ” ولك بحبك ” . تصير فريدة كخروف تحت الذبح ، محاولة أن تخلِّص نفسها بتمزيق قميصه، أو أن تجرح بأظافرها وجه حمدي الذي تزوجته رغمًا عنها من أجل السترة، فهو ابن خالتها وأحسن من الغريب، كما قالت خالتها – أم حمدي- عندما جاءت لخطبتها بعد عودتها حاملة شهادتها الجامعية، وبعد وعود كثيرة من حمدي الحاصل على الإعدادية ،بأن ينتقل معها إلى بيت مستقل قريب من المدينة، ويعمل في غير فرنه الطابون الوحيد في القرية. منذ تزوجت فريدة حمدي المتيم بها اعتادت على ردة فعله في كل مرة تحرد فيها عند أمها، تاركة له البيت ولأمه بعد ثورة قصيرة سريعة تكاد تكون شهرية أو أسبوعية، تعود بعدها فريدة لشطف أرضية المطبخ من أثر حبات البندورة، وتعيد تشغيل أم كلثوم وهي تسب خالتها التي لا تزال تتسامر مع أمها الأرملة، ومع الجارات الأرامل حول قصص بناتهن المتزوجات السعيدات، والقرية الطافحة بالحكايا المغشوشة، حتى أنها منذ سنوات اعتادت أن لاتطبخ بعد كل حادثة كهذه، فرمت قرون الفول بقشورها في كيس الزبالة، و استلقت على سريرها النعش بجانب كراسات تلاميذها الخضراء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى