شعر آمال موسى من أقاصي الروح

الجسرة الثقافية الالكترونية

راسم المدهون

في التجربة الشعرية التونسية الجديدة، أتوقف طويلاً ومليّاً أمام تجربة الشاعرة آمال موسى بانتمائها الى صوتها الخاص، الواضح والمحمَّل بجمالياته الفنية وبما فيه من اعتناء بأقانيم عديدة من المعرفة والفلسفة وتجارب العيش والمشاعر الإنسانية. هي تجربة تقع في قلب العلاقة المباشرة مع الحركة الشعرية العربية الجديدة، بكل ما فيها من تفاعلات ومن بحث عن آفاق مغايرة لشعر مغاير، خصوصاً تجربة قصيدة النثر.
رأينا كثيراً من هذا في مجموعات آمال موسى الشعرية، التي صدرت سابقاً والتي فارقت تجارب شعراء تونس ومساهماتهم، وأسست لنفسها حيزاً مختلفاً ومكانة مختلفة .
مجموعة آمال موسى الجديدة «مثلي تتلألأ النجوم» (منشورات مسكيلياني، تونس، 2016)، تختار توغلاً عميقاً في العلاقة بين العشق كحالة وجدانية فردية وبالغة الشخصية، وبين الحب كفكرة تتشابك مع روافد عديدة نلمح فيها حضور الصوفية مرَة والواقعية مرَة أخرى، لكن برفق وملامسة شفيفة: «فارغاً/ من كل هوى
يموتُ / من وقع في غير طينه».
وأياً تكن قصدية الشعر أو مساراته الفكرية، فما نلاحظه في هذه القصائد الجديدة أن الشاعرة تجمع في لحظتها الشعرية عوالم حسيّة حادّة الوضوح الى ما يقارب «المعنى»، أو إذا شئنا الدقة أكثر «الموضوعات» بما هي أفكار مجرّدة حيناً ومشتبكة مع تحققاتها أحياناً أخرى. تبني آمال قصيدتها من طين تلك العلاقة التي تؤسسها بدأب وروية تجعلنا نلحظ نزوعاً خاصاً نحو الرغبة في تجريد الفضاءات الشعرية من ملامح البيئة باعتبارها مكاناً قبل أي اعتبار آخر، والتعبير عنها باعتبارها شأناً حميماً ينهل ملامحه وصوره من رؤية شخصية، فردية، هي ابنة العشق أولاً وقبل أي اعتبار آخر.
«مثلي تتلألأ النجوم» التي تفسّرها آمال موسى بعنوان آخر هو «ثلاثية شعرية»، قصائد تنتسب الى «الحالة»، أعني هنا الحالة بكل أبعادها وحتى باشتباكات تلك الأبعاد وتناقضاتها، وحدَتها وخفوتها، وحتى صعودها البطيء، وإن الواثق والحميم نحو بنائيات شعرية مسكونة بالهواجس والأحلام والرغبات. تنطوي استرسالات آمال الشعرية على كثير من تجوُّل في شقوق الوهج الأنثوي باحتمالاته وانطواءاتها على «الآخر»، الرجل الذي قد يغيب كلفظ وحضور ذي ملامح محدّدة ليحضر في صورة طاغية كمعادل للحياة
بمفهومها العام، وللحياة كعيش شخصي وفردي يسكن في الأعماق ويطلق لغته ومفرداته وصوره في سطور الشاعرة:
«قَليلاً، جَرَّبْتُ الوُقوعَ زَمَنًا /ظَنَنْتُ فِي الجِنانِ النِّسْيَان / وَفِي التَنَـزّهِ الاغْتِسَالَ/ وَأَنَّ ذَهابَ النَّفْسِ طويلاً عَنْ هَوَاهَا/ فَتْحٌ/ أَرَى فِيهِ/مَا يَنْقُصُ الطِّفْل لِيَكُونَ مُرِيدًا/ وآدَمُ كَيْ يُسَمَّى بَطَلاً فِي الخَلْقِ».
ثمة لغة شعرية تخلق ظلالها في مقام صوفي محموم بهواجس العشق وتحوّلات الذات، بل وتقلّبات رغباتها تكتب الشاعرة آمال موسى جموح بوح من لون خاص، مختلف ولا يعتني بوضوح مباشر أو صاخب. البوح هنا هو انحياز الى صور تمور في مرايا روحية داخلية تنطلق ولا تكتمل، ولعل في عدم اكتمالها بالذات ميزتها الأهم والأشد بلاغة، فقصائد «مثلي تتلألأ النجوم» تستحضر المسكوت عنه واللامرئي بوصفه الأهم والأعمق.
أقول هنا إنها قصائد الأنثوية الجامحة في تعبيريتها المسكونة بالحسّي، حين يمتزج ويتوحد مع حضور الصورة الشعرية التي نراها تؤسس لوناً من درامية تحتفي بالمشهد فترسمه في حركيته وتصاعده مثلما تؤسس لبوح هادئ، ينهل من لحظة تأمّل قصوى. تلك اللحظة – المتصلة إذا جاز التعبير هي قوام القصيدة عند آمال موسى، وهي في الوقت ذاته لغة التعبير عن استبطان الروح الأنثوية بما هي جموح يشي ولا يقول تماماً، بل يدع القول يفتح كل مرة باباً موارباص يلقي بظلاله وبما يسمح برسم هاجس ما حميم وذي ألق ووهج: «النِّساءُ اللّواتي يَلْبَسْنَ ثَوبَ الزِّفاف مَرَّاتٍ/ فِي ذاتِ الزّفَاف./ النِّساءُ اللّواتِي تَمْتَزِجُ فِيهنَّ/ الصَبِيّةُ المُشتهاةُ بِالعَجُوزِ الصَّالِحَةِ».
قراءة مجموعة آمال موسى الجديدة تمنحنا شغفاً حميماً بملامسة فضاءات فيها الكثير من جماليات القبض على الشعر في حالة بلوغه لحظة النزول من تجريديته التقليدية الى تجريدية أخرى تتحقق بالعلاقة الوشيجة مع الواقع والفكرة والرغبة، كما مع الحلم الفردي. هي حالة تخرج بالقصيدة من سكونيتها الى رحابة الرؤية، إذ تنتبه الى بعد ثالث تلجه الروح قبل أن تلجه القصيدة، وها هو يفرض حضوره البهي على نحو مترع بحرارة البوح.
لا شيء في «مثلي تتلألأ النجوم» يحضر كما تحضر روح الشاعرة، الداخلية والعميقة واللامرئية، لكن الشاعرة تحتفل بالشعر بوصفه ناطقاً رسمياً، شرعياً وجميلاً لهواجسها ورغباتها وثقافتها وحتى لنزوعها الواضح نحو كتابة شعرية مختلفة.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى