«عسّاف والعظمة» لشارل ديك.. استعادة الإيقاع والصورة والموقف

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

جان رطل

أتي عرض «عسّاف والعظمة»، (قُدّم على خشبة أوديتوريوم الحريري حرم جامعة البلمند)، ليستحضر مسرحية «بيراغو ديبو» السنغالي، والتي لم يترك غيرها نصاً مسرحياً، مع ما انشغل به على عمق وشغف بتجميعه للموروث الشفهي وما يتضمّنه من مأثورات وحكم مقطوفة من بدائية العيش ضمن القبائل والغابات الأفريقية جنباً الى جنب الى تحوّله من طبيب بيطري ممارس وتحوّله في ما بعد الى سفير لبلاده خلال حكم «ليوبولد سيدار سنغور» في أكثر من عاصمة بما جعله يتميّز بتجميع الحكايات الشعبية وسبكها بأسلوب فيه الكثير من التكثيف والمجاز المشبع بالرمزية على خلفية عبثية وجودية كانت سائدة أيام كتابته لمسرحيته.
لن يخفَى أن مصدر النص وزمنه وكل خلفياته الاجتماعية والسياسية العامة التي حضرت أواخر الستينيات ورافقت خلالها انهيارات انظمة وبناء أخرى على انقاضها كانت حاضرة هي الأخرى في مزاج شارل ديك مخرجاً يتمسّك بالحدود القصوى الجمالية، بالنسق والإدارة للممثلين، لشروط تحويل أي عمل مسرحي يختاره. وإن كان يمتاز بنكهة يظلل فيها ألاعيبه ويكاد يستخدم في معياريتها ميزان الجوهرجي. فيخاطر ببناء يؤسسه على نص يراوح بين الكوميديا الفالتة الهازئة المقتربة من شروط التهريج وبين الشرط المأساوي الحادّ لواقع غرائبي يتباسط بطرح أسئلته الاولى!
ولندخل معه في الأمور التي تناولها عبر «عسّاف والعظمة» نبدأ من حيث تضعنا الحكاية في شروطها. وقد تربكنا، أيضاً، خلال التعرّف على القصة، بكونها حكاية بسيطة وشبه رمزية تحكي عن ريف غير محدّد اعتاد على نظام غذائي صارم باستهلاك البقول والحبوب، وليس كما اهل السواحل الذين يأكلون السمك، ويتندّرون بمعرفة كل جيل وخلال عشرات السنين انهم تمكنوا من معرفة مذاق اللحم! ولمرة واحدة فقط. ونحن هنا امام حادثة «المعرفة» هذه وما ستأتي به من تداعيات على الحياة العادية الرتيبة. سيتمّ شراء بقرة من ضيعة تملك القطعان الكثيرة ولكنها لا تأكل اللحم..! توزّع الحصص على الجميع وصاحبنا «عسّاف» يأتي بكل سرية وحرص مع «عظمته»، حصته المختارة، يطرد الجارة الفضولية المتسائلة عن مقدار الحصة وعن وعن. عند هذا الحدّ يكون عسّاف ختم خياره الشخصي، الأناني، وتجري بعدها الأحداث المشاهد التي تضعه امام رغبة صديق عمره وابن عمه زيارته ومشاركته حصته من اللحمة. هنا يعترض ويتمسّك بما يملك ليذهب مختاراً الى قبره، مغلقاً عليه كل النوافذ التي تخترعها له زوجته بعناد موصوف، لأنه يرفض أن يشاركه أحد طبخة عظمته التي تنضج على نار خفيفة.
ليس في السياق الكثير من التفاصيل إنما شؤون تمرّ بتكرار، هو عماد إيقاع كوميديا الموقف، تصل بالمشاهد الى حد استباق الكلمات والحوارات وكأن المطلوب تعميم هذه الهستيريا الاستحواذية التي تسيطر على مشاعر عسّاف المصمم على امتلاك العظمة، وهي بالكاد فيها بعض اللحم، فتمسس الجمهور حالة الصراع القائمة على الخشبة وتدخله بها فتتفلّت هنا وهناك كلام مشترك. يدعم عمل المخرج على شخصياته الأساسية وضوح تمايزها فجلافة حرد عسّاف، الطفولي إلى حد ما، مصوراً من زياد نعمة الذي يرقص بين الخفة والميوعة وجوانية المشاعر الحزين يقابله حضور الزوجة ليلى بسلاسة وطواعية سذاجتها المحببة مع ذكاء فطري عكسته ببراعة سيسيل برجي. كما أن لحضور رشا ضناوي الجارة المتشاطرة والذربة اللسان كان يحضر بالبال صورة «ام خبار» الحي في كل زمان ومكان مع فطرية السخرية المغلفة، لما تفرده من أمور الضيعة. اما موسى، غريم عسّاف، فقدم شخصيته زاكي ديب الذي توصل من خلال مشهد استرجاع ذاكرة الرقص والأفراح الى معادلة الممثل البارع والممسك بجلافة وصلافة الشخصية المتعدية التي جسدها. ساهر كمون كان حاضراً ليكون بسام المساعد لتجهيز الميت كما لملاك الموت في مرور يؤسس لاحتمالات أكثر رصانة بامتلاك المساحات وتولت كاتي عكاري، روكسان داود مع جنى شحادة ما يمكن اعتباره جوق المسرحية، لما يقدمن من مشهدية، لأكثر من ظهور، تكون فيه عمق الضيعة وتفاصيل العيش فيها كيف يتناقلون الأخبار وكيف يتشاركون بالأحزان والانتظار لتوزّع اللحم.

الموسيقى
لعل الموسيقى التي لمعت خلال انسحاب «عسّاف» من الحيّز وكانت عبارة عن جملة مكررة من كلارينيت عزف عليها «رام ريستيكيان» فيها من النفس المختنق المتردّد ما أضفى على الأجواء لمحة فريدة. كان يحضر فيها بسينوغرافيا بسيطة ومتوائمة مع احتياجات الحركة المرسومة في آن، والتي وقعها «جاكو ريستيكيان» قدّم بها مساحة من القصب الذي يسوّر البساتين ويحدّد مساحات البيوت تقابلها كتلة السرير وبمواجهته الحديقة الخلفية مع القدر، حيث الطبخ، وبالتالي ما تحتاجه الجلسات امام الدار من كراسي ومراتب وخلافه.
«عسّاف والعظمة» عرض جامعي محترف ومتمكن من لغته يثابر شارل ديك على تقديم ما يماثله يتجاوزه أو يدنو من الحفاظ على مستواه من ضمن نشاط كلية الآداب والعلوم الإنسانية؛ وهذا تقليد لا تشاركها فيه كثير من الجامعات، حتى ولو كانت تحوي على معاهد للدراسات المسرحية.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى