رواية “الصدع” للروائي عاصف الخالدي.. خبرة حكائية ودهاء سردي

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

نضال برقان *

في الوقت الذي تؤشر فيه رواية “الصدع”، للأديب عاصف الخالدي، والصادرة حديثا عن وزارة الثقافة، على وجود تلك الهوّة الشاسعة بين الإنسان بوصفه قيمة عليا من جهة، والمدينة بملامحها وتعاليمها وأنظمتها الجديدة من جهة أخرى، عبر “صدعٍ يفصل بين الإنسان والحياة”، فإنها تؤشر، في الوقت نفسه إلى تصدّعات قائمة في الذات الإنسانية الجمعية، وقد تجلت تلك التصدّعات بالعلاقات الإنسانية (المشوهة)، بين ثنائيات ما انفكت مختلفة و(منهوبة) بين الماضي والحاضر، بوصف كل منهما حقيقة قائمة في حدّ ذاته.
المدينة من جهة، وتلك الثنائيات من جهة أخرى، في صراع على امتداد صفحات الرواية، وهي الأولى لصاحبها وقد جاءت الرواية في 156 صفحة من القطع المتوسط، فثمة عبد الرحمن (بائع الكتب “الكائن الورقي”، القابل للتحلل في ظل المطر المستمر في المدينة!) وجثة جدته، التي دفنها في حديقة بيته لأن المدينة فرضت رسوما باهظة نظير دفن الموتى، وثمة صديقه رائد (بائع كتب أيضا) وزوجته مريم، المصابة بمتلازمة كورساكوف، وهو مرض يصيب الذاكرة، يُعطل الذاكرة بشكل جزئي ولفترة معينة.
وفي الوقت الذي يلاحق فيه رائد زوجته بالذكريات، تلك المرأة القوية والمتجددة دوما، خشية أن (يسقط) من ذاكرتها بداية ومن قلبها تاليا، فإنها تريده أن يحيا الراهن ويتقبله كما هو، وبينما كانت مريم تقاوم مرضها بالحياة في الراهن والمعيش فقد كان يجتهد رائد في (محاصرتها) بالماضي والذكريات، وبالرغم من وجود (صدع) خاص بينها إلا أنهما استطاعا تحقيق نوع من النجاة، في النهاية، من صراعهما مع الحياة، من خلال ما يكنه كلٌ منهما من حبٍّ للآخر، بخاصة أنهما كانا “اتفقا أن يظلا متخفيين عن تفاصيل المدينة الكبرى، وأن يعيشا تفاصيلهما الصغيرة بغبارها وثناياها دون عناء” منذ البداية.
وثمة ليلى ونادر، إذ تعيش ليلى “أولا بأول” من دون ذكريات، حيث تولد كل يوم، وتحبّ من جديد كل يوم، وتكره وتعمل وتموت في كل، بينما زوجها تتراكم الأشياء في ذاكرته حتى تبدو تلك الذاكرة كساحة خردة كبيرة، مملوءة بالغبار والحسرة، و”لكل منهما حقيقته الخاصة”، وعندما يحاول نادر الخروج من عزلته يعود لزوجته بـ”جثة دينا”، وهي الجثة التي ستكلف ليلى بائع الكتب عبد الرحمن بمهمة دفنها في مكان ما مقابل مبلغ من المال، وهكذا تستضيف حديقة بيته جثة أخرى إضافة إلى جثة جدته..
وثمة حيدر المالح (الديناصور، رجل الأمن وصاحب المهمات الصعبة) و”دنيا”، تلك الفتاة التي أراد افتراسها ومن ثمّ اختفت فجأة من بين يديه، فينشغل في مطاردة أثرها، من باب استعادة هيبته كمحقق في “الدائرة”، كلما ساعده وقته المزدحم بالمهمات الكبيرة..

ثنائيات تتداخل حكاياتها، وتتشابك، وتحتفظ بحكاياتها الخاصة، من خلال سرد منحاز إلى التكثيف والاختزال، وتجتمع كلها على مقولة واحدة، يستخدمها الكاتب تمهيدا أو عتبة للرواية، وهي: “المدينة صدع، يفصل بين الإنسان والحياة”.

وفي ظلِّ تلك الحكايات والصراعات الثنائية يبرز الحدث الأكثر أهمية في الرواية، وهو اجتياح الغربان للمدينة بطريقة خارجة عن السيطرة، بحيث راحت تهدد الحياة العامة، أو ما بقى منها، وممتلكات الناس، لا بل راحت تنبش القبور، وكأنها تكشف عورة المدينة وناسها، وكانت كشفت تلك الغربان، من ضمن ما كشفته من أسرار المدينة، قبري “الجدة” و”دينا”، ما جعل حيدر يلتقط أول خيوط جريمة مصرع “دينا”، التي كانت ماتت أثناء حادث سير وهي بمعية نادر في سيارته.

وبما أنه صاحب المهمات الصعبة فقد ارتأت السلطات تكليف حيدر بمهمة مقاومة الغربان، وبطبيعة الحال سينجح على غرار نجاحه في مهمة سابقة، تمثلت بمطاردته لكل من يجده متلبسا بالموت سرا، هربا من رسوم الدفن..

رائد ومريم يقررا الرحيل لصالح بداية جديدة، فيسكنا مكان راحلين قبلهما، هما نادر وليلى، في البيت الذي تحتضن حديقته جثة عبد الرحمن، الذي ترتب ليلى مقتله من خلال كلبها الجائع الذي أعمل فيه تمزيقا، ليدفنه نادر تاليا تحت شجرة التفاح في الحديقة.. في إشارة إلى حدث دائري، يخرج من رحم الميثيولوجيا ويجدد نفسه في الراهن والمعيش، فشجرة التفاح نفسها التي كانت سببا في خطيئة آدم وحواء وخروجهما من الجنة تقف شاهدة على خطيئة ليلى ونادر، بينما رائد ومريم يقيمان في بيتهما الجديد، معتقدين أنه بمثابة الجنة..

الرواية نفسها تتسم بخبرة عالية على صعيد تمرير حكايات الرواية، من جهة، وعلى صعيد السرد من جهة أخرى، الذي كان يتنقّل السرد بخفة ورشاقة، وبكثير من الدهاء، بين شخصيات الرواية، مبتعدا عن المقولات المباشرة من جهة العوالم الداخلية للشخصيات، فهذه مريم في ظل انغماسها في البحث عن رائد، نجد السارد يعكس ما كان يمور في خلدها من إحساس عميق بالذنب، تهاج ذلك الرجل “الذي سقط من ذاكرتها فانزلق على صدرها الشاسع ثم تلقفته الأرض”، من خلال قوله: “.. وحتى ترمي مريم صرّة الذنب الصغيرة، التي كانت تتعلق بروحها، وتعود أكثر خفّـة، يجب أن تجد رائد”. وبينما راحت الغربان تعيث فسادا هنا وهناك، يجسد لنا السارد تلك الحالة بقولة: “.. فيما الغربان الآن تعيش بكامل مواطنتها غصبـًا وبكلِّ وضوح”.

* شاعر وإعلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى