ماركيز.. يهدم أسوار العزلة

الجسرة الثقافية الالكترونية

محمد أحمد عسيري

ذاك المساء وللمرة الأولى منذ زمن، تأخر قطار الثامنة في محطة «أراكاتاكا» الكولومبية. وعلى غير العادة كان الزحام خفيفاً ونوافذ البنايات مغلقة، والأطفال الذين يبيعون الأزهار لم يحضروا ليبيعوا للمسافرين أزهار الحنين الملونة ليكون تعويذة الرجوع إلى الوطن. كل هذا حدث مصادفة في الوقت الذي كانت فيه شموع غرفة في الطابق العلوي بمدينة «مكسيكو» للتو أطفأت نورها واستسلمت للعتمة.
لقد كان هناك يرقد جسد بارد إلى جوار الشموع الذابلة. مجرد طيف لرجل كان يعتني بالأزهار كل صباح. ويجلس بعدها ليكتب حتى الظهيرة. كان يكتب ليرمم جسد هذا العالم المتآكل. ويلون مسطحاته المائية. ويفتح الأقفاص خلسة للعصافير كي تهرب من سجنها. ويرتب للأطفال أسرتهم قبل النوم.
هناك كان يرقد جسد «غابرييل غارسيا ماركيز» الذي توقف قلبه عن ممارسة السعادة في 17 من نيسان (أبريل) من العام 2014. ماركيز الذي أنهكه المرض قبل الرحيل ظل لوقت يعاني من رئتيه. لم تعد تسعفانه ليحصل على الهواء الذي يعينه على النهوض باكراً والجلوس قريباً من مدفأته وأوراقه وكتبه. ومن ثم هاجمه «الخرف» وكأنه كان يتربص بذاكرته كقاتل مأجور يحاول أن يطفئ جزءاً منها.
87 عاماً قضاها ماركيز في هدم أسوار العزلة عن الأوطان والبشر، كان لسان الإنسانية الذي عاش من أجل أن يروي. كان مبدعاً بطريقته الخاصة.. بتفاصيله التي يتقن صنعها.. بالاقتراب من مركز الألم والحزن والموت من دون أن يرتجف قلمه.
لم تكن سنوات طويلة بالقدر الذي نتخيله، لأن طريق الحياة طويل جداً يحتاج لأكثر من 100 عام يقضيها ماركيز في عزلة أخرى ليروي وكأنه لم يكتب من قبل.
ولكنه توقف.. لم يعد باستطاعته أن يكاتب أحداً، لن يتجول مجدداً في الشوارع المبللة بعرق الكادحين، ولن يجلس في المقهى الشعبي عند ناصية شارع خلفي يشرب قهوته ويستمع لموسيقى المشردين.
عامان سريعان على رحيله.
وكأن تشوه ما حدث في وجه هذا العالم الذي يفتته الحزن كلما غادره مبدع أصيل من طينة ماركيز. يقول عن الحياة التي رحل عنها قبل أن يقول كل ما لديه: «لو وهبني الله قطعة أخرى من الحياة لما كنت سأقول كل ما أفكر فيه، إنما كنت سأفكر في كل ما أقول قبل أن أنطق به». الفتى الخجول الذي كان يكتب الشعر ويهوى الرسم. بدأ حياته في ما بعد صحافياً يجمع الأخبار، ويراسل الصحف، ويحاول دائماً أن يكون في حال تماس مع الأحداث والوقائع التي تلامس الناس مباشرة.. هذا إلى جانب دراسته للقانون. وهذا ما كون لديه مخزوناً هائلاً من الأفكار والصور التي وظفها في أعماله فكانت صادقة تصل إليهم من أقصر الطرق.
إن رجلاً مثل ماركيز لن يخرج من ذاكرة هذا العالم بسهولة. حتى وإن أصيبت بالعطب. لأنه ترك خلفه أكثر من ذاكرة.. وأكثر وجه.. والكثير من الأسماء التي تكبر بيننا نيابة عنه. كانت الكتابة حياته حتى اللحظات الأخيرة من عمره.. حتى وهو يعاني فقدان الذاكرة كان يكتب كطفل صغير أول حرف من اسمه، وأسماء العصافير، وألوان قوس قزح.
طوال حياته لم يستسلم للمألوف، كان مختلفاً في صنع حكايته وأبطاله. يمزج الخيال بالواقع وكأنه يضع قطعة سكر في فنجان قهوته. ماركيز الاسم الأكثر توزيعاً طوال عقود.. الذي فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1982 استطاع بمهارة أن يحرك بوصلة الكتابة الروائية نحو وجهة أخرى. أصاب الجميع بالدهشة وهو يخرج من بين الأحياء الفقيرة ممسكاً بأبطاله بخيط رفيع. اليوم وبعد عامين ونحن نتذكره وكأننا نتآمر معه على موت الذاكرة نعيد نقش ملامحه فوق «الأوراق الذابلة» نخرجه عمداً من «متاهة الجنرال».
نبعث له برسالة قصيرة. نخبره بأن مكتبته لا زالت تنتظره. تحاول نفض غبارها ببطء. والكتب التي كان يقرؤها بانتظام. والقواميس الصغيرة. نقول له إن «الكولونيل بوينديا» يتسلل قبل الغروب من عزلته الخانقة ليقف قريباً من نافذتك المغلقة. يتحسس الأوراق المنسية والأفكار التائهة في بداية الأسطر الأولى.
وفي نهاية الرسالة القصير نخبره أنه تحول فجأة لحقل شاسع من الحروف الناضجة.. ينبت لنا حكايات تشبهنا. لذلك كان علينا أن نلوح له والشمس تشرق فوق ثماره ونقول له: شكراً «غابو» لأنك عشت لتروي لنا.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى