رواية الطوارق.. عربيةٌ وأبهى

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

أحمد المديني

اعتاد أغلب القراء العرب للرواية على مساحة جغرافية محدودة وشبه معلومة لدى الجميع، ناشرين ونقاداً وقراءً، تمتد فيها النصوص كتابةً وتداولاً وانتشاراً، أغلبها في المشرق العربي، ويليها قليلٌ يكثُر في السنوات الأخيرة ببلاد المغرب العربي. لن نختلف هنا حول أسبقية مصر وبلاد الشام في نشأة هذا الجنس الأدبي، وانتقاله فيهما إلى صدارة التعبير عن الشاغل الاجتماعي والوجدان الفردي، بنثر ذي نسق فني، ونزوع خطابي، مختلفين عن كل ما عرفه الأدب العربي الكلاسيكي. مع توالي عقود القرن الـ20 عرف أدبنا تراكماً كمياً ونوعياً مهماً وملحوظاً على مستوى الأساليب وطرائق السرد ونوع الرؤى والمحتوى والمنظورات. وهو تراكم اتّسم بصيرورة النص السردي على عدد من المستويات، انتبه إليها النقد المساوق أو الملتحق قليلاً، وأجمَلها في مصطلحي التجديد والتحول من دون أن يذهب بعيداً في كشف اواليات ودينامية وتجليات هذا الانتقال من طور وطرز إلى سواهما، ولا اندفع النظر كما ينبغي إلى توسيع جغرافية القراءة النقدية المنتجة والموسعة لآفاق تخلّق النص السردي وانتشاره ونوعه.
لقد نجم عن هذا، من بين نتائج أخرى، تكريسُ مفاهيم وتثبيتُ تيارات ومقاربات نقدية باتت وصيةً على الأعمال، قبل وبعد صدورها، وهو ما أحدث تباعداً بين النص وتلقيه النقدي، حدثت فرقة بين الكاتب والنقد (الذي بدأ يتضاءل إن لم ينعدم) وتسبّب في إقصاء نصوص جديرة من مضمار النوع، أو مفارقة، تسللت أخرى نشاز، ولا قِبل لفن السرد بها إلا تسمية. منها أعمال خارج المجال الحضري، المديني، إذ تنتسب إليه الرواية عادة وتحيا فيه محافلها. هذه، مَهَر فيها الليبي إبراهيم الكوني، الذي لم يحصل إلا بعد جهد ومثابرة طويلي الأمد، وسند أكبر من طاقة الأدب، على الاعتراف بمشروعه، نوعه، تسمى اعتباطاً رواية الصحراء. وهي فعلاً رواية مختلفة عن نمط الرواية الواقعية (بتياراتها) إنشاءً وحبكةً وهموماً وعوالم ومصائر. ما يدفع إلى التساؤل، هل نوسّع القالب، أم نطرد منه كل ما لا يستقيم داخله ووفق مقاساته؟ لن أقدم هنا أي جواب ولا فرضية، تحتاج إلى مجال أوسع، أكتفي بالقول بأن من مهمة وحق النص أن يتمرد على القالب، وينزاح عن الشكل المنضد، إذا كان هذا الفعل سيكشف ويوسع نظرنا ووعينا بالحياة والذات في آن، ويمنح الفن ما يحتاج إليه أبداً من تجديد وقدرة خلق. أظن هذا ما تقترحه الرواية اللا ـ حضَرية، المعتمدة على استثمار الحكاية، واتباع مسطرة سرد ما قبل روائية، فيما غايتها الفن الروائي وتتسمى بجنسه، خضوعاً لإكراه السوق الأدبية والتجارية (“كديسة” لأدول حجاج، مثلاً)، أو التي تسبح في المدى الصحراوي الشاسع بأكوانه وخلائقه وأهواء الكاتب فيه ومنه (أغلب الكوني)، وأخيراً، ليس آخر، ما أرى عمر الأنصاري، هذا الكاتب الصاعد يطرقه بوجل ولكن بقوة وثبات وعزم أدبي، أحسب أن سيكون له شأن في حقل الرواية العربية، قادماً من منطقة بكر هي أرض الطوارق، كما نرى غيره من السودان وإريتريا يوسعون شاشة الرواية العربية، يزيدونها تنوعاً ووجوهاً وحبكات ومعضلات حياة ووجود، فتتكسر نمطياتٌ وتتفتح مواهبُ تعلن ميلاداً جديداً لهذا الجنس.
قلنا عمر الأنصاري، الطوارقي، أي المنتسب أصلاً إلى الجغرافيا الممتدة في الصحراء الكبرى، والمعلومة بتنبكتو عاصمة أو مركز بلاد الطوارق، شمال مالي. هو من سبق أن أصدر رواية «طبيب تنبكتو» (2011) يُحيي فيها الحياةَ الماديةَ والرعوية وسيرتها القبلية الجماعية. هذه البيئة والمعيشُ ذاتُهما يعود إليهما الأنصاري بروايته الجديدة: «حِرز تالا» (دار مدارك للنشر، دبي، 2016)، فيعيد رسم الحياة الطوارقية أرضاً وبشراً وثقافة وانتقالاً بين أنماط عيش ومعتقد. يفعل هذا من خلال حكاية بديعة ومشوقة، تتخذ فيها الكتابة الروائية نسقاً ينسجم وهذه البيئة، فلا تأتي أو تبدو مقحمة عليها، ولا أسلوباً نشازاً لوصفها، بل تستعير منها لونها وهي تستسقي نبعها وتتآلف مع طبعها، صانعة بذا إهابا بقدر ما يمتص طبائع الفن الروائي، فيتمثل بها، بقدر ما ينسج على نول الحكاية التقليدية، الأقرب إلى حياة القبيلة ونمط حياة الصحراء.
تحكي «حرز تالا» قصة قبيلة تشدايت، تعيش في صحراء تنيري من بلاد الطوارق، يتزعمها سيد (مسالح) هو بمثابة رئيسها ومرجعها الروحي، يُفتي في جميع أمورها المعيشية، وصاحب الرأي والمشورة، ومن يحل بـ«علمه» الروحاني، وقوة أحرازه وألواح الملح كل العقبات والأزمات التي تعترض حياة القبيلة، أفراداً وجماعة، في صورة طاقة خارقة للعادة، تتعدى نطاق القبيلة، إلى جيرانها، من الحلفاء، كقبيلة «كل أغرغر» أو خصومها، من قبيلتي «تيلمسيوتاغات»، متفوقاً بمفرده على شيوخ «أوداغشت» منافسيه في تسخير طاقة الخوارق، لولا أنه يشكو ضَعفاً يتمثل في الخوف من ضياع سطوته وتفوق قبيلته على الجميع بسبب انقطاع الخلف، إذ لم يرزق ذكراً، ما سيحرّض ضده وعشيرته. لكنه، وهو الرجل، الزعيم، ذو الكرامات والفِراسات، استعد للغد، فجعل يُهيئ حفيدته تالا منذ صباها الأول إلى يفاعتها لتصبح الخلف، إليها يؤول «علمه» وعصارة خبرته الروحية وتجربته الحياتية، من شأنها أن تبقي تشدايت في عز ومنعة، (تشدايت، تعني نخلة منيعة تحيط بها الكثبان). هذا ما سيقع اختباره بعد رحيل مسالح، فتتعرض القبيلة إلى سلسلة نكبات وهزات وتحرّش من قبائل معادية، خصوصاً إلى عداء من يسمون «أهل الخفاء» أي الجن والشياطين، الذين يعدون في هذه الحكاية فُرقاء وشخصيات وقوة باطشة تقتسم المكان مع الآدميين، وتبسط كل الهيمنة عبر تسخير قوى الطبيعة كما تشاء، تنشر الموت وتلحق الخراب، أو بها يستتبّ السلم والعيش.
صنع مسالح لحفيدته تالا قبل أن يموت حرزاً جمع فيه أسرار قوته السحرية كلها لتذود بها عن القبيلة بعد رحيله، وهو ما لن يتحقق كما نتوقع ونبقى مشدودين بأطوار القصة بلهفة لمعرفة تطور الأحداث ومصير الشخصيات، إذ تأخذ مسارب أخرى، لكسر نمطية الصورة والحياة المكرورة في الصحراء (اللاـ زمنية)، منها مغامرات حروب قبلية، وصدامات حامية مع «قوى الخفاء»، والصراع العنيد من أجل البقاء في صورة التوفر على الملح الذي هو عصب الحياة في الصحراء، مادياً، وبالنسبة لقبيلة تشدايت الأداة الحاسمة للتصدي لقوى الشر الخفية، فلا تعازيم ولا حروز من دون ملح، فضلاً عما يجنيه من يملكه.
إن عمر الأنصاري في روايته الثانية «حرز تالا» من وراء قصته المثيرة، بشخصياتها المفردة والنمطية، معاً، وبالصور البانورامية والجزئية للبيئة الصحراوية، وكل ما حفلت به من معلومات وتصاوير، ليراهن على اختيارات ثقافية، ورؤيوية، وفنية، وأي اختيار يجد له سنادات قوية، كله في مصهر تعبير أدبي رفيع يتلاءم مع المحيط بتسميات ومصطلحات مسكوكة بدقة ووصف واقعي لا يُضاهى. لا يتسع المجال لبسط القول في هذه الاختيارات، بما يظهر فرادة هذا العمل، وأي موقع يمكن أن ينتزعه وسط سيل ما يصدر من روايات، حسبنا القول: إنها تحيي ذاكرة شعب، بسجلاتها الثقافية والاجتماعية المعيشية والروحية، العقيدية؛ وهي من خلال هذا الإحياء على طرز تمثيلي، تصويري، تُجلي رؤيةً للعالم تنبني على الخارق والغريب بوصفهما من صميم البنية الذهنية لأقوام الصحراء الكبرى، ومكوناً أساساً لهويتهم المركبة، بذا تضمن الرواية تأهيلاً معرفياً وبطانة أنتربولوجية هي محتوى الرؤية ومداها.
يبقى الرهان الأخير الذي تنشده رواية «حرز تالا» يتمثل في إقامة جسور وطرق ذهاب وإياب بين طرائق السرد المعتمدة إجمالاً في فن الرواية ومقتضياتها، والأسلوب والصيغ المتداولة في الحكاية الشعبية، باعتبارها من أشكال السرد البدائية. وفي الحالتين ترى الكاتب يمهر في الشكلين، ويلائم كل شكل بمضمونه ما وسعه ذلك، لغةً ونسجاً وبلاغةً وتصويراً وأحداثاً. بذا نرى أن رواية من هذا القبيل أكبر وأجدر من أن تسجن في تيمة تطبعها بلا شك «رواية الصحراء»، لتنضوي في مرتبة تحول نوعي أرى الرواية العربية تنزع إليه، كأنها اتخمت من شكل الرواية بإهابها الفني الغربي، وخلفياته الثقافية، وتريد صنع شكلها الفريد، وليس استيحاء تراث العرب السردي وضخه في قالب جاهز فقط. أحسب أنه تيار روائي يجري وسيمتد.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى