سعيد حربي يتناول حضارات مصر القديمة في عصور ما قبل التاريخ

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد الحمامصي

يضع د. سعيد حربي في كتابه “حضارات مصر القديمة في عصور ما قبل التاريخ” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة خارطة مهمة لأهم مناطق الرسوم الصخرية والكهوف في مصر مؤكدا أن التراث الضخم لمخلفات الإنسان من آثار هذه الحضارات البائدة على أرض مصر في شمالها وجنوبها تشير إلى أن الإنسان المصري في تلك الحقبة ـ حوالي 7500 إلى 3000 ق. م تقريبا ـ استطاع أن يخلق صورا وأشكالا من الحضارة أو المدنية توفرت لها أسسها وكل عناصرها إلا من عنصرين اثنين، هما عنصر الكتابة وعنصر الدولة، لأن الأنظمة السياسية البسيطة نبتت جذورها في تلك الحقبة من الزمان السحيق مثل الأسرة، الجماعة أو العشيرة، القرية أو القبيلة، وكان من أهم مظاهرها الحرية والنظام والعدالة.

جاء الكتاب في ستة فصول، الأول “الرسوم الصخرية في العصور الحجرية في مصر 7500 ق. م تقريبا، والثاني فنون حضارات العصر الحجري الحديث حوالي 3900 ـ 6000 ق. م تقريبا، والثالث العصر الحجري النحاسي حوالي 3200 ـ 4000 ق. م تقريبا، والرابع فنون حضارة قتادة، والخامس حضارة نقادة الثانية ـ جرزة حولي 3200 ـ 3600 ق. م، والسادس نقادة الثالثة ـ السمانية 3200 ـ 3000 ق. م تقريبا.

أهم مناطق الرسوم الصخرية والكهوف في مصر والتي تعود إلى سنة 7500 ق. م، المحميات الطبيعية في الصحراء الغربية في المثلث الجنوبي الغربي الذي يقع في أقصى الجنوب الغربي لمصر على الحدود الليبية والسودانية، بالتحديد في الجزء الغربي من الوادي الجديد على مساحة 48 ألف كيلو متر، وهي منطقة جبل العوينات والجزء الأكبر من الجبل يوجد في مصر والجزء الباقي منه يمتد داخل الأراضي الليبية، وتحتوي على تراث ثقافي ضخم للإنسان المصري القديم إضافة إلى ما يحتويه هذا التراث من قيم دينية وجمالية وطبيعية فريدة ذات أهمية دولية متميزة، ويضم المثلث الجنوبي الغربي مجموعة من المناطق ذات الأهمية الاقتصادية والسياحية والحضارية، كما تحتوي على سلسلة من التلال أهمها هضبة الجلف الكبير التي اشتهرت به هذه المنطقة التي تتخللها الأودية والكثبان الرملية. والمنطقة مليئة بالكهوف العامرة بالرسوم والصور المرسومة والملونة التي يعود تاريخها إلى 7000 سنة، وتضم أيضا آثار براكين بالقرب من جبل العوينات ومناطق أخرى تحتوي على طبقات صخرية متراكمة مختلفة الألوان، وآثار لعصور ما قبل التاريخ لأدوات كان يستخدمها الإنسان القديم.

وكهوف جبل العوينات كما أشار د. حربي عامرة بآلاف الصور الملونة التي رسمها فنانو العصور الحجرية المصريين، وكانت الأشخاص والحيوانات هي محور هذه الرسوم، وهذه الأعمال الفنية ظلت محتفظة بألوانها حتى تم اكتشافها منذ أكثر من قرن مضى وصارت منطقة لجذب الوفود السياحية من كل بقاع العالم.

ومن هذه الكهوف كهف المستكاوي الذي تم اكتشافه عام 2002 ومن رسومه سباق “ثلاث رجال” رسم صخري بلون واحد بني من المآوى الصخرية في منطقة الجلف الكبير، وكهف السباحين الذي تم اكتشافه عام 1932 ويضم ما يزيد على ألفي رسم وصورة مختلفة الأشكال والأحجام ويرجع تاريخه إلى عشرة آلاف سنة.

ومنطقة جبل العوينات أو الجلف الكبير طبقا للدكتور سعيد حربي تحتوي على ما يزيد على الف موقع وهي حافلة بكم هائل يصل إلى عشرات الآلاف من الرسوم الملونة والمحفورة التي هي بمثابة “كتاب للغة غير منطوقة” وسجلات صماء تفصح برسومها وصورها عن طبيعة حياة هذا الإنسان وعاداته ومعتقداته وأفكاره في تلك العصور السحيقة، كما أنها تعد تأريخا لإنسان هذا العصر سجل بأدواته وأسلوب فنان بدائي يحتاج إلى الكثر من الجهد لقراءته وفهم مضمونه.

وتعد هذه المنطقة من وجهة نظر د. حربي أول تجمع حضاري على أرض مصر اجتمع فيها إنسان هذا العصر، وترك لنا هذا التراث الضخم من أدوات وفنون من رسوم وصور وأشكال محفورة على أسطح المأوى الصخرية والكهوف الموجودة بها التي وجب الاهتمام بها ودراستها وحمايتها والحفاظ عليها.

فنون حضارات العصر الحجري الحديث حوالي 6000 ـ 3900 ق. م، كانت محور الفصل الثاني، وفيه رأى د. حربي أن الفن أصبح في هذه الفترة لا يمثل الواقع على أنه صورة متصلة من التجانس التام بل أصبح مواجهة بين عالمين عالم الرمز والأشكال المجردة وعالم الواقع المستمدة منه تلك الأشكال والرموز التي تخالف الشكل المعتاد أو الواقعي، وتمثلت حضارات هذا العصر في عدة مناطق متفرقة في مصر على ضفاف النيل تميزت كل منها عن الأخرى في أساليب صناعتها وطرق بناء مساكنها ومقابرها، ومدى ما بلغه أهلها من تقدم وابتكار في أساليب الزينة والزخرفة.

وقد انقسمت مناطق العمران وفقا للدكتور حربي إلى قسمين الأول مناطق متفرقة من شمال مصر أهمها في منطقة الدلتا والفيوم وأطلق عليها تسميات حضارية اصطلاحية مثل حضارة “مرمدة بني سلامة”، جنوب غرب الدلتا وحضارة الفيوم في مدخل مصر الوسطى، كما أدى الكشف الأثري عن وجود مناطق عمران أخرى عند رأس الدلتا، وفي عين شمس والمعادي وطرة، وكانت ثلاثتها متصلة في سلسلة من مناطق العمران لا تزال آثارها دفينة في الأرض. والقسم الثاني في الجنوب حضارة دير تاسا في أسيوط قلب الصعيد وتدخل أيضا في زمام منطقة البداري “حضارة البداري النحاسية”.

ويكشف د. سعيد حربي في الفصل الثالث العصر الحجري النحاسي حوالي 3200 ـ 4000 ق. م تقريبا، أهم ما يميز حضارة البداري النحاسية وهو التقدم الهائل في صناعة الفخار واشتغال أهلها بالعديد من الصناعات مثل صناعة النسيج والأدوات من العاج والعظم مثل الأمشاط والملاعق والأساور وصناعة التماثيل من العاج والطمي والأواني الحجرية التي كانت تصنع من البازلت، والصلايات التي كانت تصنع من حجر الأردواز الأخضر، أما الزينة مثل الخرز والأساور فكانت تصنع من العقيق الأحمر والفيروز والعاج وغيره من الأحجار.

ويشير د. حربي في الفصل الرابع “فنون حضارة نقادة الأولى” إلى أن بداية حضارة نقادة الحضارية كانت ذات أصول تاسية وبدارية وكان الفخار ذو الحافة السوداء هو الأكثر شيوعا، ثم زينت أسطحه بعد ذلك بزخارف هندسية ورسوم خطية متقاطعة وأشكال حيوانية وآدمية ونباتية مرسومة ومحفورة. واتسم عصر نقادة بأنه فن شعائري أو جنائزي في تلك الحقبة الزمنية التي زاد فيها الاعتقاد بالحياة الأخرى بعد الموت ومع هذا كانت قبورهم بسيطة في شكلها ومكوناتها واحتوت على ذخائر ما بعد الموت.

أما حضارة نقادة الثانية 3600 ـ 3200 ق. م التي يتناولها الفصل الخامس فيذكر د. حربي أنها شهدت تقدما ملحوظا في كل مجالات الحياة، فقد أرست قواعد الحضارة الزراعية أساس اقتصاد البلاد وأحد عوامل ارتقاء الحضارة المصرية، وتطورت تقاليد الفن والصناعة التي وصلت بإنتاجهم الفني والصناعي شمالا الوجه البحري في “طرخان، جرزة وأبوصير الملق” وجنوبا حتى أراضي النوبة في وادي السبوع، عمدا، عنيبة.

وتشير الخامات غير المحلية مثل اللازورد التي استخدمها أهل نقادة في منتجاتهم المحلية إلى وجود علاقات تجارية بين مصر وبلاد الشرق وأفريقيا في هذه الحقبة السحيقة، كما استخدم النحاس على نطاق واسع في صناعاتهم المحلية مثل صناعة الملاعق والمدى وبعض الأواني الصغيرة وأغطية لبعض القدور والأزاميل ورؤوس الفؤوس والحراب وغيرها، وتطورت فنونهم في مجالات الرسم والنحت وبناء المساكن والمقابر من الطوب اللبن التي كانت تميل إلى استقامة الأضلاع وتبطين جدرانها بأغصان الأشجار والألواح الخشبية. كما ظهرت أولى محاولات تسجيل الأحداث اليومية والجنائزية على جدران مقبرة “عظيم”، المقبرة 100 في هيراكونيوليس في أواخر نقادة الثانية.

في عصر حضارة نقادة الثالثة ـ السمانية 3200 ـ 3000 ق. م كانت مصر بلدا مفتوحا ومتصلا بالعالم الخارجي بكل مقاييس الأخذ والعطاء عند أمم الأرض الناهضة، وقد صاحب هذا الانفتاح تطور حضاري سريع ومذهل لا يقارن بهذه الفترة القصيرة من عصر نقادة الذي أدى إلى ترسيخ دعائم حضارية ثابتة كانت أساسا لحضارات العصور التاريخية التالية.

وشمل هذا التطور كل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية وغيرها، وزادت فيه حجم بعض المقابر وظهرت مقابر غنية بتراثها الجنائزي، وشملت بعض اللوحات التي استخدم فيها الرموز الهيروغليفية المبكرة، واستمر فيها إنتاج الأواني الفخارية. وزاد إنتاج الأواني الحجرية. كما استخدم النحاس على نطاق واسع في أغراض متنوعة، وزادت صناعة المجوهرات من الذهب والفضة والزجاج البركاني الأسود واللازورد والعقيق والعاج وغيره، كما تشابهت الطقوس والتقاليد الجنائزية المصاحبة للموتى في جنوب مصر مع طقوس وتقاليد أهل الشمال ومن نماذج فنون هذا العصر صلاية الملك نعرمر المصنوعة من حجر الشست الأردواز ـ نحت بارز.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى