«تفاحة إيمانيوتن» للإماراتية إيمان الهاشمي وتجربة الكتابة الساخرة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

جمال البدري

يقول شيشرون ساخراً: «الفقير يعمل والغنيّ يستغل الفقير والجندي يدافع عن الاثنين والمواطن يدفع للثلاثة والكسول يعتمد على الأربعة والسكير يشرب من أجل الخمسة والصيرفي يسرق الستة والتاجر يغش السبعة والطبيب يقتل الثمانية وحفارالقبور يدفن التسعة والحاكم يعيش من العشرة «.
من المعلوم أنّ الأدب العربيّ الساخر ظهر مع فنّ المقامات في العصرالعباسي في بغداد، بعد القرن الثالث الهجري. لعلّ من أبرز رواده الجاحظ في كتاباته؛ إلا أنه أصبح سمة خاصة لدى بديع الزمان الهمذاني (357/ 398) وبطل مقاماته (عيسى بن هشام) وأبوالقاسم الحريري (446/ 516) وبطل مقاماته (أبوزيد).
والمقامة فنّ أدبي من النثر الفنيّ الذي يعتمد حكاية ساخرة بأسلوب موسيقي يقوم على فنون البلاغة وتقاطع المواقف الظريفة كحكاية؛ ويهدف إلى إيصال رسالة اجتماعية أو سياسية أو فكرية معاصرة للكاتب؛ وكانت المقامة موضع اهتمام مجالس بغداد العباسية؛ لما تدخله من ظرف ساخر؛ وخفة روح يتناسبان مع أجواء الاجتماع آنذاك…
وقد غاب هذا الفنّ الرائع عن حياتنا الأدبية والاجتماعية حتى ظهرفي أوروبا عصر النهضة بشكل محدود لكنه ( تبلور) وأخذ شخصيته الواضحة في أدب برنارد شو في بريطانيا.
ثمّ أصبح مرافقاً للنقد (الكاريكاتيري) في الرسوم.
ولعلّ من أبرز الكتاب العرب في المهجر كان الأديب جبران خليل جبران؛ بعباراته الساخرة العميقة التي جاءت بثوب (فلسفي). ووسط هذه الملامح التي ذكرناها من التاريخ… فإنّ فن السخرية الأدبي يكون مرافقاً لهموم الإنسان والمجتمع وأحزانه من حرمان أو تحديات جسام بالتندر… ولا شكّ أنّ حياتنا العربية اليوم لا ينقصها الحزن المرير والحرمان الواسع النطاق تحت سنابك الأوجاع اليومية للناس.
ووسط هذه (المرارة) غابت الكتابات الساخرة إلا في رسوم الكاريكاتير السريعة الأفول بسبب ارتباطها بالعدد (اليومي) للصحف؛ وفي أحسن الأحوال بالعدد الأسبوعي. أما اتخاذ هذا الفنّ العربيّ الأصيل؛ ليكون ظاهرة أدبية بسعة كتاب فقلمّا كان. . .
حتى ظهر للأسواق عن دار هماليل للنشر والتوزيع كتاب «تفاحة إيمانيوتن» للكاتبة الإماراتية إيمان الهاشمي. (ماجستير إدارة موارد بشرية وموسيقية وفنانة تشكيلية وشاعرة).
ليعيد ألق هذا الفنّ الغابر من خلال مقالات ساخرة راقية المقام واللغة، وقد جمعت بين التقطيع الموسيقي والبلاغة العربية بواسطة اللعب على حروف اللغة لصياغة معنى جديداً يؤدي دلالة مغايرة للمألوف؛ بطعم لاذع محبب للنفوس.
مقالات ذات قدرات لغوية استثنائية؛ استطاعت استثمار معارفها لخلق لغة جديدة غير مستهلكة في عرض مادتها الغزيرة؛ وبلغة فصحى وموسيقى عذبة؛ من خلال فكّ وتفكيك التراكيب والصياغات اللغوية؛ المدمجة بدلالات القضايا الاجتماعية والإنسانية والعاطفية؛ من خلال قلب حرف إلى قريبه له بالنطق أو حذف نقطة عن حرف أو تقديم وتأخير لفظ بدل لفظ؛ أو صناعة مفردة مستحدثة ذات معنى مثير وذكي المدى من لفظة تقليدية عادية مرمية على قارعة اللغو؛ ولم تكتف الكاتبة بذلك، بل عززت تجربتها الرائدة بسيل من المقالات المنشورة أسبوعياً بالاتجاه نفسه… ولذا هي تستحق أنّ تكون الوريثة الجديدة لهذا الفنّ النادر خليجياً على الأقل.
إنّ ميزة هذا الفنّ أنك تستطيع أنْ تتناول عدة قضايا (بضربة واحدة) دونما أنْ تجرح المخاطب، بل يجد في سكّينك الحادة؛ بدل الألم اللذة وبدل السخرية الألفة وبدل التهجّم الكرم؛ وبدل القطع (قطعة كعك).
لقد نجحت الكاتبة بخلق لغة جديدة قريبة للنفوس والناس بأدب لطيف يستعلي على الشكاية والنكاية والتجريح؛ بالتنفيس والترويح.
ولعلّ المؤلفة خير منْ يجيد التعبيرعن مضمون كتابها بقولها: «لم أجلس تحت الشجرة ولم تسقط التفاحة على رأسي ولم أكتشف قانون «الجذب» العام بل كنت أقضم بهدوءٍ لذيذ وَجْنَة تفاحتي الحمراء التي احتضنتها بكلتا يديّ، لأراقب تفاصيل وجهها «الشهي» بتمعنٍ فلسفي شديد، مما جعلني أبحث بشغف ولهفة عن أقرب ورقةٍ وقلم كي أرصّ نظرية «نيوتن» للجاذبية بطريقتي الخاصة: أولاً: ثمة من يدخل حياتنا كالتفاح (الأحمر أو الأصفر) بمذاقٍ سكريّ «يحلّي» أيامنا، ويغذي أرواحنا، بامتصاص ألياف ما يرهقنا ضد تأكسد قلوبنا؛ أي قريباً من عمل أنزيمات اللون (الأخضر) الذي يحمل نكهةً تميل إلى الحموضة أو المذاق اللاذع قليلاً بما قد لا يستسيغه البعض، أو يجده صعب البلع أحياناً، ولكنه حتماً الأكثر احتواءً على فوائد تنشط الوظائف الحيوية في فكرنا لتنفيذ عملية التمثيل الغذائي الأمثل في أمور دنيانا كافة، لذلك نجد هؤلاء يقومون بتقويم سلبياتنا بعد تعزيز مناعتنا لمقاومة التهابات «العقبات اليومية»، وتقوية إيجابياتنا بفيتأمينات الحياة السعيدة من أجل التقدم والاستمرارية نحو الأفضل.
ثانياً: هناك من يلعب دور «الدودة» اللئيمة بداخل سلة من «الخداع» الطازج، فيقوم بنخر أهدافنا من دون أن ندرك أنه يأكل «لب» أحلامنا، ويتغذى من ثمار «إنجازاتنا»، ولا يستسلم حتى يتم التهام كلّ جزء من قشرة «نجاحنا»، أو إلى حين اكتشاف مآربه «المؤذية» فيتم استئصال بذرة «قاذورات» أفعاله من المساحة الصالحة للبقاء.
ثالثاً: بعضهم تظهرعليه علامات العفونة بشكل واضح وصريح، فيكون غير صالح «للتناول» معه إطلاقاً، ولذلك يرجى عدم اللجوء إلى محاولاتٍ فاشلة أو مبادراتٍ لا طائل منها لإصلاح العطب الموجود، لأن البكتيريا الظاهرة عليه شديدة العدوى وتنتقل «بمعاشرة السوء» لفترة معينة، حيث يصر العفن على عدم التغير وإصابة من يجاوره بالمثل، حتى يصل «الفساد» للمعايير القصوى. لقد كانت هذه أطروحة «خيالية» من فرضيتي «للتكامل والتفاضل» في العلاقات البشرية، لكن يبقى السؤال «هل حقاً نستطيع تمييز جميع أصناف التفاح؟» أترك الإجابة لكم ). وفي مقال بعنوان: (كيف هالك) بدل كيف حالك؛ تقول ومنه: (لا تسألني كيف (حالك)؟ فأنا حالي من (حالك)، لذا اتركني في (حالي) ولا تتركني (لحالي)! وأظن الفرق بينهما واضحاً، فالأولى تعني ألا تتدخل في شؤوني. والثانية ألا تعتزل عالمي وكوني، ولهذا لا تيأس من (حالك) ولا تبقى أبداً (لحالك) في الظلام (الحالك)، لأن كل (الحال لك) وفيك وبك، سيتغير حين تتغلب على مستحيلك أو (محالك)، عندها فقط اسألني عن حالي، وطبعاً على ضمانتك الشخصية، فأنا لست مسؤولة عن ردود أفعالي، فقد أجيبك «هالكة» وأنا بكامل صحتي وعافيتي، وقد أخبرك كيف، ولماذا، ومتى «أهلكني» السؤال عن الأحوال).
ومن طرائفها الساخرة بعمق قولها في مقال آخر: (يرجى قراءة هذا المقال من دون حذف حرف «القاف» من وسطه! كي لا ينقسم «وِسْط» (المال) المائل الذي لن يراقص العبارات الجميلة في قاعة «السطور» البيضاء عبرأنغام هادئة تعزف «الأوراق» مجاناً، بعيداً عن «البنكنوت» الملوّنة بعيونٍ تدق (الباب) لتخطف (ألباب) الزمن والثمن معاً أتمنى أن يتحمل رأس (الحبر) المسكين كل هذا الكم الهائل من الهجوم بسيف «الهمزة» المشلول فوق جيش «الألف» الذي يحاول احتلال عرش «القاف» وغزوه عبر تحويل (القلم) إلى (الألم)، فالكاتب لا يملك بين يديه سلاحاً أقوى من «الكلمة» في معركة الحياة، وهو الوحيد القادر على استخدام مدافع «الأبجدية» اليدوية، والمزوّدة بقذيفة «ح ر ف» التي تنطلق مباشرة لتصيب الهدف في التأثير «السلبي أو الإيجابي» في الغير، معتمدة على نوعية «أنغام» الحكاية الخضراء أو «ألغام» النيات الحمراء.
ومن هنا يأتي تصنيف جنود (الكتّاب) بحسب صفوف أعمالهم إلى صالح وآخر طالح، ليبقى الضوء مُسلطاً على (كتيبة) الجندي المجهول، التي يتخبط فيها «قائد الفكر» في اختيار الصفحة المناسبة لطرح حقيقة ما يشعر به، فيغش الصحيفة الفصيحة بصفيحة «حروف الهجاء» لهجاء الحروف، أو لضرب الأمثال ضرباً مبرحاً برمح «الأقلام»، أو لتقسيم «صرخات» الألفاظ بما لا تعنيه «الجُمل الساكنة» في الصدر، وذلك لإضافة بعض الانتصارات «البنكية» برصيد المشاركات البطولية الزائفة في ساحة القرّاء.
لقد تغير «حال» القارئ العربيّ حيث أصبح على دراية جيدة «بمبتدأ» النية، و«خبر» شرف المهنة المكتوب بالخط العريض على جبهة «العناوين» للتّعرف إلى ملامح «الفاعل والمفعول به»، وللحكم على الفعل «اللازم» نحو «النحو» الملازم، من دون كسر القواعد المجرورة بالضمير الغائب منذ كان وأخواتها! بعد «التمييز» الواضح بين صفة «المتعدي» والقلب المعتل للآخر وأخيراً سأغني بكلماتي على ألحان أغنية نجوى كرم الشهيرة (أنا ما فِيِّ إِكْتب أكتر من إيديِّ) أكرر قد قلت: (أنا ما فيّا) ولست (أنا مافيا)! فهذا المقال قد قال ما قال، واللهم إني بلغت اللهم فاشهد). إنّ هذه التجربة الجديدة تستحق التنويه لتكون بداية لعودة هذا الأدب الرفيق لقدرات غير تقليدية في عالم الكتابة… ومايزال البعض يذكر كتاب «صندوق الدنيا» للأديب المصري الساخر إبراهيم المازني. وهو أديب ومترجم وكاتب لاذع صاحب مدرسة متميزة في الكتابة الساخرة، ويحتوي كتابه على مجموعة من المقالات المكتوبة باللغة العربية الفصحى التي تناول فيها جوانب وقضايا مختلفة في هذه الحياة، إضافة إلى الحديث عن ذكريات طفولته وشبابه بطريقة هزلية ومسلية جداً. وكذلك كتابات الأديب المصري الساخرمحمد عفيفي؛ بأسلوبه اللاذع الذي مزج فيه بين الفصحى والعامية.. حتى رست كتابة الأدب الساخر عند الأديب والكاتب السوري محمد الماغوط؛ ومحمدود السعدني ويوسف السباعي؛ حتى الروائي نجيب محفوظ؛ في عديد رواياته؛ سواء بصيغة الوصف أو من خلال الحوارعلى لسان إحدى الشخصيات. إنّ الكتابة الساخرة (مدرسة) قائمة بذاتها؛ تستحق الاحتراف من كتّابنا الجدد لأنها تعبيرعن مأسأة المرحلة المعاصرة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى