بول كلي رسام ساخر تلاعب بالقوانين

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

انطوان جوكي

منذ معرضه في «متحف باريس للفن الحديث» في العام 1969، لم يحظ الفنان الألماني بول كلي (1879 – 1940) بمعرضٍ شامل في فرنسا، على رغم كونه أحد الوجوه الكبرى والمؤسسة للفن الحديث. من هنا الاهتمام الذي يلقاه معرضه الاستعادي الحالي في «مركز بومبيدو» (باريس)، خصوصاً أنه يطرح نظرةً جديدة على مختلف مراحل إنتاج هذا العملاق من خلال نحو 250 لوحة ورسماً ومنحوتة تكشف مجتمعةً الطريقة التي مارس بها السخرية وفقاً لمسعى يعود مرجعه إلى الرومنطيقية الألمانية الأولى.
وفعلاً، سعى كلي طوال حياته إلى الظهور تارةً بحلّة الراهب وتارةً بحلة الكوميدي، مستعيناً باستراتيجية عمل تقوم على التضارب، فتراوح بين واقع ومثال، بين توكيد لمُطْلقٍ والهزء منه، مُدخِلاً على عمله تأملاً في الوسائل والمبادئ الخاصة بالفن، الذي لم ير فيه سوى «تلاعب بالقوانين» و «خلل في النظام».
معرضه الحالي، الذي يتألف من سبعة أقسام، يكشف كيف تمكّن هذا الفنان من تفكيك العقائد والقواعد التي رسّخها معاصروه، منذ بداياته الساخرة حتى منفاه في سويسرا، مروراً بسنوات التحاقه بمدرسة «باوهاوس». عصيانٌ يطرح «المبدأ وانتهاكه في آنٍ واحد»، ورأى الموسيقار بيار بوليز فيه أمثولة كلي الأهم.
القسم الأول من المعرض يعود بنا إلى شتاء 1901 – 1902 الذي أمضاه الفنان الشاب في إيطاليا حيث تبيّن له، أمام عظمة الفن الروماني القديم وفن «النهضة»، أنه لم يكن سوى مقلّد يعمل على تكريس مثالية كلاسيكية لا بد من تجاوزها. وهو ما دفعه إلى اعتماد الهجاء الساخر كوسيلة تعبير حديثة قادرة على تأكيد قِيَم مثالية سامية، وفي الوقت نفسه على طرح نظرة ناقدة على وضع العالم. وفي هذا السياق، كتب آنذاك في دفتر يومياته: «أخدم الجمال برســـم أعدائه». وانطلاقاً من هذا الانقلاب الجدلي في قلب السخرية الألمانية، بدأ العمل على رسوم سيّر فيها تأملاته، القارصة غالباً، في العلاقة بين الرجل والمرأة، وفي علاقة الفنان بالمجتمع وموقعه فيه.
في القسم الثاني، نتوقف عند اكتشاف كلي للتكعيبية في ميونيخ نهاية 1911، ثم في باريس عام 1912، اكتشاف ما لبث أن غذّى أبحاثه التشكيلية، لكن غالباً بطريقة جدلية. فعلى رغم تأثّره بالمفردات الموشورية البرّاقة الخاصة بالفن التكعيبي داخل رسومه ذات الأسلوب الطفولي، سخر من تفكيك الوجوه والقامات في أعمال التكعيبيين الذي اعتبره خالياً من الحيوية. ونكتشف أيضاً في هذا القسم كيف أدخل الفنان على سلسلة المائيات التي أنجزها خلال رحلته الأسطورية إلى تونس (1914) مفاعيل انفصال وتباعُد عبر إسقاطه شرائط عمودية بين تشكيلاتها أو عبر قصّ هذه المائيات، بعد إنجازها، إلى عدة أجزاء جعل منها أعمالاً مستقلّة أو أعاد تلفيقها على ركائز جديدة. أعمال تعكس مسعى إبداعياً يرتكز في شكلٍ مفارق على فعل التدمير.
ويسلّط القسم الثالث من المعرض الضوء على الصورية الميكانيكية التي تجلّت في عمل كلي خلال الحرب العالمية الأولى، ويعود مصدرها إلى تجارب الفنان أثناء خدمته العسكرية في سلاح الطيران، وأيضاً إلى تواصُله مع أبرز وجوه الحركة الدادائية الذين روّجوا بقوة لجمالية الآلة، وإلى تعليمه في مدرسة «باوهاوس». هكذا تحوّلت الطيور داخل أعماله إلى طائرات في تشكيلات هجومية، وفقد الخطّ مطواعيته العضوية، وظهرت تلك الكائنات الهجينة، البشرية والآلية معاً التي هدف الفنان منها فضح ضيق الحياة الداخلية في زمن العقلنة الصناعية.
في القسم الرابع، نشاهد بحث كلي عن توازن بين مقاربته الحدسية للفن والعقائد الفنية العقلانية الجديدة، خصوصاً بعد رفع مؤسس مدرسة «باوهاوس»، والتر غروبيوس، شعار «الفن والتقنيات، وحدة جديدة» عام 1923. وفي هذا السياق، لجأ إلى بعض المفردات الهندسية للحداثة، لكن بعد تطويعها وإفراغها من جمودها، كما في لوحاته المشيّدة بواسطة مربّعات والتي تستحضر تارةً إيقاعات موسيقية، وتارةً رسوماً زجاجية، وتارةً قطع سجّاد أو حقولاً مصوّرة من علوّ شاهق. بعبارة أخرى، لعبت الجمالية العقلانية وظيفة المبدأ المثير للاشمئزاز الذي يستدعي من الفنان موقفاً مناقضاً له من منطلق أن «على القوانين أن لا تكون سوى ركائز تسهّل عملية الخلق بحرّية» بدلاً من تقييدها.
القسم الخامس يتناول عودة كلي، في نهاية مرحلة «باوهاوس»، إلى أزمنة بعيدة من تاريخ الفن، كالحضارة الفرعونية أو رسوم المغاور في العصر الحجري القديم، واستقاءه منها عناصر تشكيلية حوّلت لوحاته إلى ما يشبه الفسيفساءات القديمة. وفي الواقع، شكّلت هذه المراجع ركيزة متواترة في خياله تجلّت على شكل أحفورات (fossiles) ومغاور وتدوينات على الصخور يتعذّر فكّها وجبال في حالة تشكُّلٍ، وأيضاً على شكل نباتات وحيوانات. لكن باستنساخه مفاعيل مرور الزمن على الأشياء (تآكُل، تعفّن…) ومبادئ تنظيم علامات تعود إلى ثقافات بدائية، لم يسْعَ الفنان سوى إلى محاكاة هذه الأشياء والعلامات بطريقة طريفة.
وبينما رُصد القسم السادس للحوار الواضح بين أعمال كلي وأعمال بيكاسو خلال عام 1912، وخصوصاً في ثلاثينات القرن الماضي، وهو حوار يعكس تملّكاً وتضارباً وإعجاباً سرّياً متبادلاً، نشاهد في القسم الأخير من المعرض الأعمال التي أنجزها كلي بعد وصول هتلر إلى الحكم عام 1933 واضطراره إلى مغادرة وطنه والاستقرار في مدينة بيرن السويسرية.
ومن هذه الأعمال، سلسلة رسوم تجسّد بظلالها المعتمة والعنيفة القلق الطاغي على ألمانيا، وبورتريه ذاتي يأخذ شكل قناع أفريقي شبه تكعيبي يسخر كلي فيه من السياسة النازية عبر هزئه بالمعايير المعتمدة لرسم وجهه، ولوحات تقابل الرعب بصورية طفولية ولعبية، وتتحوّل فيها العلامات إلى قامات بشرية من عيدان كبريت، ترقص ليس من الفرح بل من الخوف، وفي ذلك تلميح إلى سياسة الترويض التي انتهجها النازيون مع الشعب الألماني.
وتختم المعرض رسومٌ أخيرة أنجزها كلي بعد إصابته بمرض تصلُّب الجلد (sclérodermie) عام 1935، ما يفسّر التبسيط في خطوطها التشكيلية الذي رأى فيه بعض النـــقاد توظيفاً متعمّداً من جانب الفنان لمرضه من أجل التعبير بفعلٍ ساخر أخير عن محنة البشرية ومحنته الخاصة في آن.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى