أحمد الرحبي متقبلاً الآخر بعيني «الجدّة نينا»

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

ابراهيم فرغلي

في رواية «أنا والجدة نينا» (دار الانتشار العربي)، تمكن الكاتب العماني أحمد الرحبي أن يُضيف كتاباً جديداً إلى سلسلة كتب توثّق فنياً أو تسجيلياً، مرحلة التفاعل الثقافي والحياتي بين كتّابٍ قضوا فترة من حياتهم في روسيا، ومنهم أحمد الخميسي، محمد المخزنجي، صنع الله إبراهيم، محمد ملص وسواهم.
ثمة تعارض مخاتل بين العنوان ووقائع النص، فبينما يتصدر العنوان ضمير المتكلم «أنا»، فإن النص لا يغوص في ذاتية يوحيها العنوان، بل إنه يدل على النقيض، أي الولع بتقصي الآخر وتتبّع اهتماماته. يقدّم النص سيرة الطالب العماني سعدالله في موسكو، خلال فترة إقامته للدراسة، بحيث هرب من السكن المشترك بسبب جنون الطلبة العرب وأحقادهم وعبث السلوكيات وثقافة الحياة المشتركة، إلى شقة سكنية تعيش فيها البابوشكا كما يطلق عليها بالروسية، أو الجدة العجوز نينا. لكنه لا يبدو مهتماً إلا بالآخرين، بأهل البلاد، أو بأفراد الجالية العربية، ونماذج الطلبة المشتركين الذين يتعلمون اللغة الروسية، من فيتنام والصين والبرازيل وصربيا وغيرهم. أو حتى وجوه الراهبات في مدينة الكنائس، يتأمل أحوال الشخصيات، ويرسم ملامحهم، وينصت الى بوحهم. وفي المقابل، لا تكاد تعرف من هو ولا من أي أرض جاء؟ لولا أن ثمة من يناديه بالعماني.
سعدالله الذي تساءل يوماً وهو يتألم من شدة البرد القارس، بعدما وصلت درجات الحرارة إلى الخامسة والثلاثين تحت الصفر: «لماذا أنا هنا؟»، سؤال وجودي صاخب له قوة الرعد في السماء. واحد من تلك الأسئلة التي تداهم الفرد بغتة، متسللة أو متفجرة من بين ثنايا اليومي والمعتاد، لتقلب حياة الفرد رأساً على عقب. لكنه على رغم ذلك، يدرك أن قسوة الطبيعة المفرطة في بعض الأحيان، تعلم البشر كيف يهادنونها، تماماً كما فعلت الجدة نينا، التي تعلمه أنها لا يمكن أن تكره أحداً، مهما آذاها، بناءً على عرقه أو دينه. الدرس الذي استوعبه سعدالله، وهو يتسامى على كل من آذوه لاحقاً خلال تجربته الروسية، الجار الشاب الذي كاد أن يصيبه بالجنون بإزعاجه ومضايقته، والذي يدرك سعدالله في ما بعد أن هذا كله ليس سوى مظهر من مظاهر الضعف التي يتسامح معها. وحتى أولئك الذين افتعلوا مشادة معه في غرفة سكن الطلبة والتي انتهت بضربه لهم وقطع إصبع من أصابعه، تمكن لاحقا من التأكد من أنه لا يكرههم، لأنه يتفهم دوافع ما يفعلونه.
سعدالله نموذج للباحث عن الحب، والذي قد يبدو للوهلة الأولى كأنه الحب العاطفي في شكله البسيط عبر العلاقات التي كان يسعى لها، سواء مع معلمته الصربية صوفيا، ثم مع نماذج عديدة أخرى من الطالبات اللواتي التقى بهن من أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا وروسيا، لكنه في العمق، ووفق مجريات الأحداث، يسعى نحو علاقة تعادل عمق فهمه للعالم، وللآخر. ليست علاقة جسدية عابرة، بل علاقة حب تشتبك بها قوة الخير والشر، والملائكة والشياطين. وقد عبر عن رغبته تجاه ماريا، حفيدة الجدة نينا، التي أتاحت لهما فرصة الذهاب إلى رحلة روحية في مدينة الكنائس، اعتادت أن تقوم بها سنوياً، حيث أنصت لصوت أجراس الكنيسة القوية وبات هائماً بها، فيما تعود إليه من عُمان روائح وصور وذكريات الجدّ والأب والقرية العتيقة التي ولد فيها وما عادت كما كانت. لكنّ ماريا وحدها التقطت إحساسه الصوفي العميق وهو غائب في تأمل الأجراس وهي تدق عالياً. ماريا التي رأى أن في اسمها ما يشبه اسم جدته العمانية التي كانوا ينادونها تحبباً «ما رَيّا».
وربما أن الشخصيات العديدة التي ظهرت في العمل، كومضات لم يفسح لها الكاتب المجال ليكشف تطورها، وتقديري أن الكاتب كان مهتماً بكتابة هذا العمل الصوفي الطابع بنوع من السرد الذي يقترب من الشعر، ستجد ذلك في بناء العديد من الجمل التي تصف الأحداث وسلوك الشخصيات بوصف يبدو جلياً أنه نابع من بئر الشعر، وفي بناء الرواية نفسها التي تبدو كقصيدة سردية صوفية طويلة.
جسدت الأسطورة والتراث عنصرين أساسيين للمنهل الثاني الذي اختاره الكاتب في تقديم بعض المشاهد العصرية في موسكو، قد يبدأ من الأسطورة التي تصف كيف منح الآلهة أهل هذه البقعة من الأرض ما يبدو جنة، لكنّ الحكاية التراثية هنا تقدم للقارئ وصفاً مختزلاً ومكثفاً وذكياً لاتساع روسيا وتنوعها وجمالها. ثم يصف كيف يمكن أن تكون مثل هذه الجنة متاهة كبيرة وأرضاً للضياع التام.
وكلها، في النهاية، تخدم هذه النزعة الإنسانية التي يتبناها الراوي، ليرى وينصت ويتأمل، وخصوصاً للجدة نينا التي قد تعيد على مسامعه الحكاية نفسها عشرة مرات، من دون أن يتأفف، لأنه يريد أن يفهم، وسوف تتناثر على امتداد العمل شذرات من الحوارات بينه وبين الجدة أو حفيدتها أو سواهما لتحاول أن توضح فكرة كيف أن فهم شعوب العالم يحتاج إلى الكثير من التأمل والمراقبة.
بنى الرحبي النص في هيئة مشاهد متعاقبة، مثل اللوحات المسرحية، واستخدم لغة رشيقة وأدبية في الوقت عينه، وبدا جلياً أن جانباً منها استفاد من خبرته في كتابة «الريبورتاج» الإعلامي، لكنه أضاف أيضاً جانب السخرية والمرح في وصف عدد من المشاهد، مهما كانت درامية، وهي إضافة مهمة للنص السردي العماني المعاصر.
سعدالله العماني نجح في أن يختبر نفسه في موسكو، وأن يدرك أن العالم أكبر بكثير مما قد يظنه الشرقي الآتي من ثقافة لا تمجد إلا ذاتها، واختلط بأهل معلمته الصربية، زوجاً وأباً وشقيقات، وفرض على الآخر احترامه هو المسلم الذي قد تثير هويته ريبةً لدى الآخرين. ونرى هذا في النص عبر الكراهية المجانية التي رمقه بها الصربي الذي يضع كل المسلمين في إطار الكليشيه النمطي الذي تحدده له الثقافة التي ينتمي لها.
ينقل سعدالله بلغة أهل روسيا مقاطع من الحوارات ليؤكد خصوصية الثقافة التي عاش بين أهلها، كما نقل لأهلها جانباً من روح المحبة والإخلاص والإيمان لشخصية عربي يعرف معنى التسامي والإنسانية. وهذا ما نجح في تحقيقه الكاتب عبر النص باقتدار. وترك أحمد الرحبي النهاية مفتوحة لمستقبل سعدالله في عالم البابوشكا وأحفادها، لعله يترك للقارئ حرية توقع ذلك الأفق، أو لكي يمنح لنفسه فرصة استكمال النص لو راودته الرغبة.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى