«باريسية» لدانييل عربيد.. رأفة الغرباء

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

علي زراقط

في فيلمها الروائي الثالث، تتخفّف المخرجة اللبنانية ـ الفرنسية دانييل عربيد من ثقل بيروت لتقدم لنا باريس هذه المرة. «باريسية» فيلم مستوحى من سيرة المخرجة الذاتية، تماماً كما كان فيلمها الأول. نتذكر جيداً «معارك حب»، الذي يروي حكاية لينا، فتاة في الثانية عشرة من العمر تجمعها علاقة قوية بخادمة عمتها، في الوقت الذي تعيش فيه حربين: حرباً داخلية بسبب فراغ حياتها العائلية من الحب، وحرباً خارجية نتلمس أطرافها في المدينة ولا نراها.
لينا في «باريسية» تبدو هي نفسها لينا «معارك حب»، إلا أنها كبرت وقرّرت أن تترك هذه المكان المثقل بالألم وترحل إلى المجهول. ولكي تكسب تعاطفاً تبدأ بتكبير أهوال ما عاشته من الحرب (كما تقول لجوليان قرب النهر). الأهوال التي تضخمها لينا ليست أهوال الحرب الخارجية، بل هي أهوال الحرب التي تسكن داخلها. كما أنها تقول إن الحرب تؤثر علينا ونسمعها أحياناً لكننا لا نرى منها إلا القليل، وهذا ما كانت قد قدّمته لنا دانيال عربيد في «معارك حب».

سينما الطريق
هناك خطان في الفيلم (])، الأول خط الدراما الذي يأخذك في رحلة مع تشعبات حياة فتاة بين المراهقة، النضوج، الغربة، وتحدي الانتماء إلى ثقافة جديدة. أما الثاني فهو التحية التي تريد المخرجة أن توجّهها إلى باريس، والثقافة الفرنسية. من الأساتذة الذين يتحدثون بلسان الفلاسفة، إلى الشخصيات التي تشير كل واحدة منها إلى شكل من أشكال الفنون. الصديق الأول يحب مانيه (الفن التشكيلي)، الثاني مغرم بالروك (الموسيقى)، أما الثالث فمهووس بالكتابة والثورة. يبدو هذا الخط نوعاً من الدروس، أو التوصيات، بل فلنقل مذكرات يومية يسجلها مسافر عن النماذج التي يلتقي بها. فهنا التقت لينا بأستاذة الفنون المتأنقة لفظاً وهنداماً والتي تثير السؤال عن العلاقة بين القبح والجمال، أما أستاذ الاقتصاد فيبدو كحكيم يسدي النصح لأحفاده عبر إرثه المكتبي، فيما وريث السلالات العتيقة يسكن قصراً ويسرف في إنفاق المال في علاقة لاهية، يبدو النادل المتردد التائه هو الآخر غريباً في بلاده، مثلها تماماً، وصولاً إلى اللاجئة التي تتبرّع بأن تتقدم لتكلمها في المحكمة وتخبرها قصتها ومن ثم تنسحب. على هذا النسق تتحوّل كل الشخصيات حول لينا إلى نماذج لا أكثر ولا أقل. إلا أن ما يُحسَب للفيلم هو إدارة التمثيل الناجحة، والموهبة الفذة لمنال عيسى في دور لينا، كما الخط الدرامي الذي يقود الحكاية.
لا يحاول الفيلم المبالغة في الدراما، بالرغم من الفرصة التي تسنح له لفعل ذلك. بل إنه ينحو في خط بسيط يسرد تتالي المواقف والتطور النفسي لفتاة تصير امرأة. تبحث لينا عن الحب، هذا الذي لم تعرفه في بلدها الأم، تتعطش لتراه في عيون الآخرين. «أعدوا قائمة بالأشياء التي تجدونها قبيحة» تطلب الأستاذة من الصف. فتسجّل لينا «حتى اللحظة كل شيء قبيح». من هذا الباب، باب القبح الذي تراه لينا في كل شيء، تبدأ القصة المبنية بصيغة تقترب من بنية «أفلام الطريق»، أكثر منها ببنية «أفلام المدينة». في أفلام الطريق، يُبنى النص على شخص تائه (لا يعرف طريقه في الحياة) يبدأ بالمسير ليلتقي بشخصيات توضح له أياً من تفرعات الطريق سوف يسلك ليصل في النهاية. أما في أفلام المدن، فعادةً ما تضغط المدينة وشخصياتها لتظهر أسوأ ما في الشخص وتضعه في مرآة ضعفه. تختار عربيد أن تضع بطلتها في فيلم طريق داخل المدينة.
فلنتذكر معاً نهاية «عربة تدعى الرغبة» (مسرحية لتينيسي وليامز، وفيلم إيليا كازان)، عندما قالت بلانش «لطالما اعتمدت على رأفة الغرباء». هذا ما نحسه في لينا هذه الفتاة، الهاربة والمخنوقة من تاريخها المؤلم، ترمي بنفسها في «رأفة الآخرين» تماماً كما كانت بلانش تفعل. إلا أن بلانش كان لديها صعوبة في تقبل الحقيقة، فالاهتمام الذي كانت تحصل عليه من الغرباء كان في معظم الأحيان نوعاً من الاستغلال. تسقط لينا في ذلك، لا بل يسقط الفيلم كلّه في ذلك إذ ينظر تماماً إلى رأفة الآخرين، في سياق هروبه من لعنة الأنا، لعنة التاريخ. هذه الأنا مريضة، الأب الذي كان عنيفاً في «معارك حب»، ها هو يبدو مريضاً في «باريسية». علاقة لينا مع الأب والعائلة لا تبدو جيدة، بل هي سيئة ومكروهة، في بداية الفيلم. حتى أنها تحزن عندما تطلب منها والدتها العودة إلى لبنان. إلا أنها خلال عودتها توحي ببعض الرأفة تجاه هذا الكائن الضعيف الذي اسمه الأب/الوطن. لينا الباريسية من أصل لبناني، أقوى من الوطن لأنها عرفت كيف تستغل رأفة الغرباء، لتكوّن ذاتها الجديدة. وهي ذات تستطيع أن تكون غريبة عن لبنان فترأف به، وغريبة عن باريس فترأف باريس بها. هكذا تكون لينا فازت على بلانش التي لم تستطع التأقلم وانهزمت في النهاية. في رحلتهما على مدار فيلمين، تخلق لينا ودانييل وطنهما الخاص خارج حدود هذا الوطن.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى