«أرز بين الصنوبر» وثائقي عن مغتربين لبنانيين في أميركا

الجسرة الثقافية الالكترونية

جاد الحاج

يعتبر مبنى برلمان ولاية «نيو ساوث ويلز» في سيدني من المعالم المعمارية الناطقة بمراحل نشوء الدولة الاسترالية وتطورها عبر القرنين الماضيين. بدأت اعمال بنائه في مطلع القرن التاسع عشر وتزامنت الإضافات والترميمات المتوالية مع اتساع الولاية التي باتت تضم اليوم العدد الأكبر من سكان استراليا. في قاعة محاضرات هذا البرلمان، التقى منذ أيام، لفيف من أبناء الجالية اللبنانية والعربية في سيدني للترحيب بالبروفسور أكرم خاطر، أستاذ التاريخ في جامعة كارولينا الشمالية (الولايات المتحدة)، ورئيس «مركز خير الله لدراسات الانتشار اللبناني» هناك. في جعبته شريط تسجيلي عنوانه «أرز بين الصنوبر» أعدّه وصوره بمشاركة دانيكا كولينان وجاء يعرضه مدعواً من «جمعية تأريخ الانتشار اللبناني في استراليا».
رحبت بالحضور الأمينة للعامة للجمعية دنيز باراكي ماك، وشكرت مبادرة النائب البرلماني طوماس جورج على دعمه اقامة الأمسية في مبنى البرلمان. تلاها عضو الجمعية جون خوري الذي روى فقرة من ملحمة وصول اسرته الى استراليا، شملت مفارقات النشأة في عالم جديد والتوق الحارق الى الإنضواء والإنتماء. بعد سنوات من التجوال ناشطاً اجتماعياً، مسعفاً للصليب الأحمر الدولي، ومتابعاً احوال الوطن والمغتربات، انضم جون الى «جمعية التأريخ» التي تأسست منذ قرابة عقدين بمبادرة من المؤرخ تريفور بتروني، طليعة مؤرخي الانتشار اللبناني في استراليا.
«أرز بين الصنوبر» مدته ساعة توثيقية تتجاوب معطياتها مع مقولة «الأقل أكثر». فالمقابلات المتقاطعة خاطفة، دقيقة، خالية من الإسهاب المستفيض. والعودات الموثقة الى تاريخ الهجرات اللبنانية – السورية منذ 1880 حتى سنوات الحرب الأهلية (1975- 1991) تأتي على ألسنة المغتربين ووفق تجاربهم الشخصية وانطباعاتهم: «عشت عشر سنوات من الحرب في قلب المعارك. لا طفولة لدي خارج الفرار من مكان الى آخر هرباً من الموت». يقول ضومط اسحق: «كنت صغيراً عندما بلغنا هذه البلاد وكانت السنوات الأولى صعبة من كل النواحي». لكن ما إن يتحقق الاستقرار النفسي والشعور بالإنضواء في المجتمع الجديد حتى يظهر الفارق بين العيش في ظل الفوضى وانعدام آفاق المستقبل، وبين العيش في مجتمع تحكمه القوانين والأعراف. تلك حقيقة سادت إفادات من قابلهم أكرم خاطر في «أرز بين الصنوبر». فضومط اليوم مواطن اميركي يفتخر بانتمائه المستجد بقدر اعتزازه الأصيل. ولاؤه للولايات المتحدة لا يناقض ولاءه لوطنه الام، مما ورد على ألسنة غيره من شخصيات الشريط. «كنت أشعر بأنني سمكة خارج الماء في البداية» قالت نرجس موسى ضاحكة «لكن هذه السمكة تعودت العيش خارج مياهها الأولى. الحياة تتغيّر مع تغير الظروف. في البداية خشيت أن يعتبروني ارهابية ويأنفوا صداقتي، لكن حين عرفوني عن قرب زالت أوهامهم وصرنا أعز الاصدقاء».
قدماء وجدد، نساء ورجال من كل الاعمار والبيئات والتجارب الحياتية، تحدثوا الى عدسة أكرم خاطر في هذا الشريط. رأينا تجمع العائلات، حلقات الدبكة، ألكان التبولة، وتشكيلات الكبة والمعجنات. وتعرفنا الى مغتربين قاسمهم المشترك انهم بنوا في كارولينا الشمالية من لا شيء حياة كريمة، من دون ان يفقدوا وشائج متحدهم. موييز خير الله مؤسس مركز دراسات الانتشار اللبناني دكتور في الصيدلة يمارس مهنته بجدارة عالية، ويرى أن العمل الاجتماعي الجيد من شأنه ان يبني جسوراً بين البشر، يقرّبهم، ويعزز التواصل بينهم. وليس أمامنا سوى النشاط الإيجابي البنّاء لتأكيد صورة مغايرة عما أوحت به وسائل الإعلام منذ 9/11 حين تحوّل الانتشار الى غربة مجحفة، وتهدد وجود العرب قاطبة في الولايات المتحدة. يقول خير الله إن الهجرات العربية عموماً كانت مغيبة عن التاريخ الأميركي حتى ذلك اليوم المشؤوم، على رغم انجازات علمية وثقافية مهمة حققها مغتربونا، ولذا بات حضورنا بعد كارثة أيلول 2001 قريباً الى الإرهاب إن لم نقل قريناً له، فكل ما تستدعيه ذاكرة الاميركي عن ابن العرب انه مختلف، متناقض شكلاً ومضموناً مع نموذج الانسان المتمدن بالمقياس الغربي… وها هو يكاد يدمر نيويورك! في القرن التاسع عشر رسم المستشرقون، بالريشة والقلم، انسان الجزيرة العربية والمغرب العربي، بدوياً بدائياً، على جانب إكزوتيكي في أفضل الأحوال، غير انه عموماً هجين ولا يخلو من خطورة غامضة. ثم جاءت هوليوود لتزيد في الطين بلة فـ «كرّسته» متوحشاً، عدواً للمرأة، غريباً عن الكياسة والسلوك الحسن. الا انه بقي هامشياً، مؤطراً في صورة سلبية لا أكثر، بعيداً في محيطه الملتبس. وفجأة ظهر على هيئة الغوريللا في فيلم «الجميلة والوحش»… مع ذلك لا يبدو موييز خير الله متشائماً، ففي رأيه ان اميركا في حال تغيّر مستمرّ، وليس فيها مسلمات نهائية. ما عليك سوى ان تعمل في الاتجاه الصحيح كي تحدث فرقاً وتعيد الحقائق الى مكانها الطبيعي.
جرى عرض «أرز بين الصنوبر» في عشرين مناسبة على قرابة مئة الف مشاهد كما عرضته شاشات التلفزة في كارولينا الشمالية وحصلت المكتبات الوطنية في الولايات المتحدة على خمسمئة نسخة من الشريط للارشفة والبحوث. ويقول أكرم خاطر إن معركة إثبات الوجود عبرالإضاءة على الجوانب الإيجابية والخلاقة للمغتربين تحتاج الى نفس طويل ومثابرة وتعاون بين الجميع، لأن الهجمة على صورتنا في العالم لم تنكفئ، بل تزداد ضراوة كل يوم، وبات توظيفها في السياسات الضيقة رائجاً على وقع حروب المنطقة العربية.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى