خلدون المالح ينهي استراحة المحارب

 

أشهر قليلة كانت تفصله عن العودة إلى دمشق؛ مدينته التي كانت تنتظره من رحلة علاجه في «لوس أنجلوس»، لكن الأجل لم يترك له خياراً آخر، سوى بالعودة على متن طائرة من بلاد «كولمبوس» بعد أن ترك وصيته الأخيرة لأسرته بأن يدفن في «الشام» مغمضاً عينيه أمس؛ مع إشراقة فجر 26 نيسان في ولاية كاليفورنيا الأميركية.
هكذا اختتم خلدون المالح (1938ـ 2016) رحلة قاربت 78 عاماً بعد صراع مع مرض عضال؛ مسدلاً الستار على أكثر من نصف قرن من العمل الإعلامي والفني. هو «مسبّع الكارات» كما كان يطيب له أن يصف نفسه؛ لقبه الذي انتزعه كأبرز مؤسسي التلفزيون العربي السوري منذ انطلاقته عام 1960؛ جعله واحداً من ألمع الأسماء التي بزغت منذ الستينيات كمراسل سياسي ومقدّم برامج ومعد ومحاور من الطراز الرفيع؛ ثم كمخرج وممثل مسرحي وتلفزيوني وإذاعي وفنان تشكيلي.
شهرته التي طارت مع «دريد ونهاد» بعد نجاح مسلسلاته التي ساهم في إنتاجها: «صحّ النوم»، «حمام الهنا» (بالاشتراك مع فيصل الياسري)، «وين الغلط»، «ملح وسكر»، «وادي المسك» للثنائي الكوميدي، كانت قد تأسست مع «سهرة دمشق» و «الإجازة السعيدة» أولى برامج التلفزيون التي أخرجها وقدمها المالح كعنوان رئيسي تناول فيها الطرفة الشامية والشخصية الشعبية التي عمل عليها فيما بعد مع رفيقي دربه قلعي ولحام، منجزاً ما هو أقرب إلى مسرحٍ تلفزيوني جذب عيون النظّارة، وأسر قلوبهم بعفوية الخطاب الإعلامي وقدرته على صياغة رأي عام حول مجتمع سوري تعرّف على نفسه لأول مرة بعد الاستقلال من خلال الشاشة الصغيرة. في السينما أنجز المالح وحيده «صحّ النوم» مسجلاً براءة اختراع في انتقاد حال مجتمعه عبر «حارة كل مين إيدو إلو» الوشم الأكثر مَضاءً في قراءة أزمة أخلاقية مزمنة كان الراحل قد استشعرها بحسه الفني الساخر؛ مطارداً «غوريلا الحارة» في أشرطة الأبيض والأسود قبل أن يحققها كفيلم ملوّن لم يلقَ وقتها النجاح المأمول الذي حققه على الشاشة الفضية، ليسافر بعدها إلى روما ليتلقى في دورة اطلاعية هناك فنون الإخراج الأكاديمي في مؤسسة التلفزيون الإيطالي «الراي» حائزاً شهادة الدبلوم.
زمن الأبيض والأسود
من هنا يمكن أن نعثر على عشرات الساعات الدرامية والإذاعية التي ما زالت تحفل بها مكتبة التلفزيون السوري بإمضاء هذا الفنان والمثقف الشامل؛ لا سيما لقاءاته مع كبار نجوم الفن والغناء العربيين من أمثال محمد عبد الوهاب والموجي وبليغ حمدي وعبد الحليم حافظ؛ فالرجل يكاد يكون القاسم المشترك لمعظم تلك الأشرطة التي وثّقت للفن السوري؛ ليضع الراحل توقيعه فيما بعد على أهم الأعمال المسرحية التي كتبها الشاعر محمد الماغوط؛ محققاً مسرحياته «كاسك يا وطن»، «غربة»، «ضيعة تشرين» للتلفزيون كأشرطة ما زالت تلقى نسبة مشاهدة عالية حتى اليوم.
برحيل خلدون المالح تنقضي حقبة الزمن الجليل الذي شكّل المخرج والمنتج السوري أحد أقوى علاماته الفارقة؛ مصدّراً بأعماله الجريئة اللهجة الشامية إلى العالم العربي، بعد أن كانت اللهجة المصرية هي اللهجة شبه الرسمية لبرامج وأفلام السينما ومسلسلات التلفزيونات العربية؛ فرغم اشتغالاته العديدة ومساهماته في تأسيس نقابة الفنانين السوريين، وعضويته فيما بعد لمجلس الشعب في سوريا عام 1977، وحيازته العديد من الأوسمة والجوائز التقديرية العربية والدولية، ظل المالح لكل من عرفه عن قرب أكثر ميلاً لمهنة الإخراج عن سواها من المهن الكثيرة التي مارسها في حياته.
غاب المالح بعدها سنوات طويلة عن الساحة الفنية، وعلل ذلك بقوله بأنه يأخذ استراحة محارب من الدراما للتفرغ للفن التشكيلي، إلى أن يعثر على النص الذي يشحذ له همته من جديد؛ فبعد إنتاجه وإخراجه مسلسل «الجمل» (جائزة الدراما مهرجان القاهرة) في تسعينيات القرن الفائت، أدرك الدمشقي الأنيق أن فورة الفضائيات العربية وصعودها مع طفرة النفط الخليجي لم تترك لأمثاله من الفنانين المحليين مكاناً؛ فآثر الاحتجاب على تقديم أعمال تخضع لمسطرة السوق الجديد، لعله كان يدرك أن زمن الأبيض والأسود سيظل بعيداً عن زمن عمى الألوان الذي أجهز على الذائقة الدرامية ومن قبلها الغنائية، تاركاً الجمهور على قارعة نجوم الفيديو كليب.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى