«الساحرة» لروبرت إيغيرز.. الغول الإيماني

 

زياد الخزاعي

حَسَمَ الأميركي روبرت إيغيرز عقيدة باكورته «الساحرة» (92 د.) عبر عنوان فرعي، جعل منها تمثّلاً سينمائياً لـ «حكاية فلكلورية من نيو إنغلاند»، المستعمرة البيضاء الواقعة عند حوافي الشمال الشرقي لقارة، شهدت غزوات أوروبيين غلاة، جلبوا معهم عزماً لا يلين على إقامة يوتوبيات إقطاعية بخيارات بديلة عن كل شيء قديم، ما عدا إيمانهم اليسوعي ورهبنته ولاهوتيته وطاعته التي سوّغت لهم، بلا آثام أو مقاضاة، سرقة أرض سكان أصليين ـ يمرون سريعاً على شاشة إيغيرز ـ وانتهاك أعراضهم وسفك دمائهم.
بين هذيانات دارجة، كان إبليس صَنْعَة تم استيرادها مع جحافل قرويّي القارة العجوز، لتُسرد لعناته ضمن المسامرات آنذاك، وليكرّس كذريعة مضمرة لفاشية دينية لن تسمح بمساءلة سطوتها الماحقة. كان المزارع العنيد «ويليم» (رالف أنيسون) أول ضحاياها، حينما نازع في مفتتح الشريط نافذي الكومونولث والكنيسة واستكبارهم، قائلاً تحت أنظار صغاره الخمسة المروعين من قدرهم الدموي: «ما سعينا كي نجده في هذه البريّة؟ غادرنا موطننا، وتركنا بيوت آبائنا، وعبرنا محيطاً مُتَرامياً، من أجل ماذا؟ أليس من أجل إيمان نقيّ بالإنجيل وملكوت الرّب»، مصرّاً على براءته من الممانعة وتهمها، معلناً: «لن أقبل محاكمتي من قبل مسيحيين مزيفين».
تمّت انتفاضة «البيوريتاني البروتستانتي» ومقاضاته أمام حشد استعماري أخرس. ألحّ على حياديته، وهو يشهد إرغام البطل وعائلته على النفي من الحصن الحضريّ، ليستقروا عند تخوم غابة غامضة الكائنات والوقائع. نكتشف أنها هاوية داكنة، تستّر غوايات متبدّلة الوجوه لتعسف ثيوقراطي استهدف جموع خطاة وضالين وحانثي عهود، عبر شخصية امرأة ساحرة تقطن بيتاً ذا معمار يعود لمقاطعة «بليموث» البريطانية، إشارة الى مرجعيتها الإمبريالية، وكونها مخلباً سلطوياً مكلفاً بالقصاص.
دم الأطفال
تتعمّد المشعوذة بدم أطفال «ويليم» واحداً تلو الآخر، مقوية عصا عقابها المتجسّدة بكبش أسود ضخم، يغتال الأب وصغيريه بمعركة قصيرة حاسمة. وهو واحد من حيوانات عدّة (غراب، أرنب، شاة، حصان) تستكمل طقوساً متوحّشة حول عائلة منكوبة. يرينا روبرت إيغيرز (مواليد 1983) ذلك المخلب واليد الشمطاء التي تحمله، تداعبان وجنتيْ الابن اليافع «كيلب» (هارفي سيكرمشو) لإغوائه الى داخل بيت الأموات، ومجازاته على آثامه. أولاً، كذبه الذي يتقيؤه كتفاحة سوداء. ثانياً. استيهاماته الجنسية المحرّمة لجسد شقيقته الكبرى، ليستغيث لاحقاً على فراش موته بمسيحه الطفوليّ، طالباً الغفران عن مروقه ولا طهرانيته، واقترابه من وثنية محظورة. قبل هذا، نشهد «اختطاف» الساحرة ضحيتها الأولى، وهو رضيع الأم كاثرين (الممثلة الأسكوتلندية كيت ديكي) التي حوّلها الفيلم ضميراً أُنثويّاً خلاصياً ومتمرّداً، يعي أن الخسارة الجماعية لا محالة أمام غول إيماني لا يرحم
شريط روبرت إيغيرز من «جندر» الرعب، بيد أنه لا يساير نماذج كلاسيكية نهمة للدماء والصدمات، على شاكلة اشتغالات الإيطالي داريو أرجينتو في «سوسبيريا»(1977)، أو الأميركي سام رايمي في «جرّني الى الجحيم» (1996)، بل تفاخر بولائه لرؤى المعلّم ستانلي كوبريك، وبالذات عمله الإشكالي «ذي شاينينغ» (1980) الذي تحصّن «إبليسه السينمائي» في غرفة فندق منعزل، قبل أن يقود بطله «جاك» نحو الجنون والمجزرة، فيما حوّل إيغيرز المنزل الغابي القصيّ الى فؤاد مكشوف يخترقه سحر أسود، يدفع بالإبنة البكر «توماسن» (أنايا تيلور ـ جوي) الى الغدر بأمها المبجلة، والانضمام الى عصبة مشعوذات يحلقن في الفضاء، بعد رقصة فاجرة، نحو ملكوت هرطوقي مليء بصراخ الوعيد والانتقام والسادية. اجتمعت ثلاثة عناصر على جعل «الساحرة» قولاً سينمائياً غنياً ومغايراً وممتعاً. نأيه عن الفجاجة الدموية لأفلام التخويف ونمطياتها. انتصاره لدقة تاريخية لحقبة 1630 الأميركية، بانت على تصاميم ثريّة للأزياء من توقيع ليندا موير، ودقة صنيع المدير الفني كريغ لاثروب، فيما خصّ معمار المواقع والبيوت التي استخدم فيها مواد قريبة الى حد بعيد بما كان شائعاً وقتذاك. أخيراً، حكمته في انتخاب حواراته بلهجة أهل «لينكولنشير» البريطانية القديمة، إضافة الى تقنية بصرية هادئة الألوان، وإنارة طبيعية، وإطارات صور محكمة الصنع نُفّذت بقياس هوليوودي قديم هو 1.66، جعل مشهدياتها ذات طابع قوطي مجيد.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى