غسان شميط: الجولاني العنيد

سامر محمد اسماعيل

المخرج الآتي من الجولان تعلّم السينما في روسيا وظل الجولان موضوعاً طاغياً على سينماه حتى في أفلام لا تتحدّث عن الجولان. فيلمه شيء ما يحترق، قوبل بدهشة كذلك أثار فيلمه «الطحين الأسود» جدلاً واستحقّ عليه اسم المخرج المشاغب وهو يقترب في «ليليت السورية» الذي يعمل عليه بحذر من المأساة السورية

لم تغب قصة نزوح أسرته عام 1967 من قريته (عين قنية) في الجولان السوري المحتل في مجمل أفلامه؛ فذاكرته ساعدته على تحقيق العديد من أشرطةٍ سيُنجزها تباعاً عن تلك المرحلة، موثّقاً عبر سيرته الذاتية ما يقترب من أرشيف سينمائي صادم عن الهزيمة وما تبعتها من خيبات على المستويين الإنساني والسياسي: «خرجنا بعد العدوان من الجولان وكنتُ ما أزال في العاشرة من عمري، ليرافقني بعدها حلم العودة منذ ذلك الوقت؛ إذ كان بمثابة الرجوع إلى ذاكرة الطفولة الهادئة التي كنا نحياها أنا وأخواتي الثمانية بصحبة أبي وأمي في بيتنا الريفي المُطلّ على ثلاث دول (لبنان وفلسطين وسورية)، حلم العودة الذي رأيته هو ذاته مَن كان رفيقي في إنجاز أفلام أكثر واقعية عن ذلك اليوم الذي نقلتنا فيه سيارة شحن من خطوط الجبهة إلى حي (الآس الغربي) في ناحية جرمانا – (جنوب شرق دمشق)، للأسف دعني أردد ما قاله (أبو رمزي) بطل أحد أفلامي (اليوم الجولان وبعد قرابة نصف قرن من الاحتلال أصبح صورة على جدار».
الأفلام الأولى التي شاهدها (شميط) كانت عبر عروض تعليمية دأبت وزارة الزراعة على تقديمها في ساحات قريته لإرشاد الفلاحين إلى العناية بأشجار التفاح والزيتون؛ لكنه ومع إكماله لدراسته بعد النزوح في مدارس دمشق، تعرّف الفتى اليافع إلى صالات العاصمة: «أول فيلم شاهدته في حياتي كان الفيلم الروسي (الحرس الفتي) في صالة الحمراء، بعدها اهتديت أنا ورفاقي الصغار إلى عروض الصالات التي كانت منتعشة آنذاك، فمن صالة (عائدة) إلى صالة (الكندي) إلى سينما (دمشق) حضرنا العديد من الأفلام الأجنبية والعربية، حتى أنني شاهدتُ باكراً أفلاماً سورية لا زالت ترنّ في ذاكرتي حتى الآن منها (الفهد) و(المخدوعون) و(سائق الشاحنة)».
نال صاحب (قلاع الشمس) الشهادة الثانوية من مدرسة (جودت الهاشمي) بعد التقدّم إلى امتحان الطلبة الأحرار، ليحجز له مقعداً في كلية الجغرافيا بدمشق، لكنه عرف أن دراسة الفلك والجيولوجيا ستزيد له عدد الكيلومترات الفاصلة بينه وبين الجولان: «الجغرافيا أثقلت على روحي، لكونها ذكّرتني مراراً بأن برزخاً عميقاً يمتد بين أحياء دمشق وأشجار التفاح الجولاني، وما هي إلا ضربة حظ تلك التي جعلتني أحصل على منحة من اتحاد الشبيبة لدراسة السينما في الاتحاد السوفياتي».

يوميات جولانية
الصدفة العابرة كما يُخبرنا السينمائي السوري كانت وراء حصوله على منحته الذهبية؛ ليسافر عام 1976 إلى موسكو ومنها إلى كييف، المدينة الدائمة الخضرة التي درس في معهدها العالي فن الإخراج السينمائي، منجزاً أفلاماً روائية قصيرة عدة منها (اللعبة – 10 دقائق) و(الرقيب – 20 دقيقة) و(صيد تحت الماء – 20 دقيقة): «موسكو كانت وقتها مدينة عالمية بكل معنى الكلمة، تزخر بشوارعها العريضة ومتاحفها العريقة وصالات سينمائية كبرى، أتذكّر أنني كنتُ أقضي الوقت في مشاهدة تحف السينما السوفياتية، منكبّاً على دراسة اللغة الروسية، اللغة التي سوف أقرأ بها أعمال دستويفسكي وتولستوي وتورغنيف وتشيخوف وغوركي، لقد كان النهم إلى القراءة ومشاهدة الأفـــلام يدعــوني كل يوم إلى معرفة المزيد، والاطلاع على ســر السيــنما وسحرها، لكنني وبعيداً عن كل هذا كنتُ أغصُ كلما تذكرتُ أبي يصرّ على بناء بيتنا الحجري في قريتنا الجولانية دون أن توقفه غارات الطيران الإسرائيلي».
بعد عودته إلى بلاده مع بداية الثمانينيات من القرن الفائت؛ أنجز المخرج الشاب أفلاماً تسجيلية عدة كان أولها فيلمه (يوميات جــولانية – 1989) ثم (البرعم – 1990) ليكون فيلمه الروائي الأول (شيء ما يحترق – 1993) بمثــابة مفاجــأة للجمهور السوري والعربي الذي تلقف الفــيلم باحــتفاء كبير لاسيما أنه جمع نخبة من الممثلين السوريين على نحو (منى واصف، ويوسف حنا، وخالد تاجا، وبسام كوسا، وأمل عرفة): «أردتُ أن أحقق فيلماً بعيداً عن الشعارات، أن أضع اليد على الجرح تماماً، فمن خلال عملي على أفلام وثائقية عن الجولان جمعتُ خلالها عشرات المواد البصرية والفوتوغرافية والمكتوبة، وصلتُ إلى صياغة ما يشبه وثيقتي الشخصية عن الجولان، عن تلك الجدلية بين جيلَي الآباء الذين ما يزالون يحلمون بالعودة، والأبناء الذين لم يشهدوا النكسة وأخذتهم الحياة بعيداً عن حلم آبائهم».
المخرج يجب أن يتحلّى بصبر أيوب – يقول (شميط) معبّراً عن المدد الزمنية التي كان يعمل فيها بصمت وهدوء على سيناريوات أفلامه منتظراً فرصة لإنتاجها؛ فبعد فيلمه الأول قام (شميط) بتقديم مشروع فيلمه الروائي الثاني (الطحين الأسود) عام 1994 لكن الفيلم لم يبصر الضوء إلا عام 2000؛ وفيه تناول ابن الجولان المحتلّ الفترة التي أعقبت الاستقلال في بلاده، راجعاً إلى مرحلة الخمسينيات السورية من القرن العشرين: «هي عودة إلى ماضٍ مفقود قمتُ بتحقيقه عبر محاولتي أسطرة المكان الجولاني والنفاذ إلى عميق تكويناته الثقافية والروحانية».
أثار (الطحين الأسود) الكثير من السجال والجدل عند عرضه في الصالات، لاسيما أنه تناول بيئة جبل العرب ولأول مرة في السينما السورية، بعيداً عن المكيجة والترميز والتمويه، ناقلاً بصدق (الشيفرة) الثقافية المعقدة لهذه البيئة، مما جعل (شميط) ينتزع بجدارة لقب (السينمائي المشاغب): «لم أرد أن أقدّم في (الطحين الأسود) خيانة للبيئة إطلاقاً، إنما حاولتُ أن أحتفي بالمكان على طريقتي، مسجّلاً تأملاتي للمستوى السحري وعلاقة المكان بالغيب والإنسان، مما حرّض ضدي بعض الرؤوس الحامية التي أخذت الأمور على عواهنها، بدلاً من القراءة الهادئة للشريط».
في جعبة هذا الفنان العديد من الأفلام الروائية القصيرة التي كان يحققها بين كل شريط طويل وآخر؛ فلقد أنجز منذ عودته إلى بلاده تجارب لافتة في السينما القصيرة كان أبرزها (ورد وشوك ـ 2003) و(معاً على الطريق ـ 1989) و(منارات ـ 2003) و(بصرى ـ 1983) و (سلطان ـ 2014): «السينما في العالم أصلاً بدأت كسينما قصيرة، وظلّت على هذا الحال قرابة ربع قــرن، ولهــذا اشتغلتُ على العديد من تلك الأشرطة التي تراوحت بين التسجيلي والروائي، وفي كل تجربة كنتُ أقتنع يوماً بعد يوم أن السينما القصيرة هي أفق لم يُكتشف بعد».

الشراع والعاصفة
في عام 2006 أنجز (غسان) فيلمه الروائي الثالث بعنوان (الهوية ـ إنتاج مؤسسة السينما) عن سيناريو مشترك بينه وبين الأديب وفيق يوسف، وفي هذا الشريط ظل المخرج الجولاني على صلة وثيقة بأمكنته الأولى، فأحداث الفيلم الذي طرح موضوعة (التقمص) لأول مرة في السينما السورية، صاغت لعبة زمنية مثيرة، كان الجولان محورها الجوهري كقضية لا يمكن للجيل الثالث أو الرابع وضعها وراء ظهره: «في السينما يصبح المكان زماناً، حاولتُ ذلك عبر شخصياتٍ كثيفة ومريضة بذاكرتها البعيدة، إنها لعبة تناسخ أرواح بين الأمكنة والأشرطة، بين أشجار التفاح وزارعها، لا يمكن شطب الذاكرة، لا يمكن خلع الرأس عن الكتف، هكذا هو الجولان في ذاكرتي، تمرين دائم على التذكّر والمذاكرة، ورغبة لا يمكن أن تمّحي، فهي تتناسل مع كل طفل جديد يولد بعيداً عن أرضه الأم».
مع رواية (الشراع والعاصفة) للأديب حنا مينة حقق (شميط) فيلمه الروائي الخامس متقاطعاً مع العاصفة الدموية التي هبّت في بلاده منذ عام 2011: «إنجاز هذه الرواية للشاشة الكبيرة كان حلماً قديماً لديّ، لكن من أسف الفيلم الذي بدأت عروضه الجماهيرية مع اندلاع الأحداث في سورية لم ينل حظه لا من النقد ولا حتى من الفرجة، لكن بالعموم أستطيع القول إنني بذلت قصارى جهدي للإطلالة على سورية بعيد الحرب العالمية الثانية، وهي فترة غنية للغاية بطفولتها السياسية، وبروز التيارات والأحزاب التي تقدّمت إلى واجهة النخب الثقافية السورية».
يُنهي المخرج السوري عملياته الفنية الأخيرة على فيلمه الجديد (ليليت السورية ـ إنتاج مؤسسة السينما) عن نص للروائية جهينة العوام؛ وفيه ينبش (شميط) في جذر المأساة التي ألمّت ببلاده؛ مقترباً من سينما القسوة ومبتعداً هذه المرة عن عباءة سينما المؤلف: «في هذا الفيلم أستطيع القول إنني خرجتُ عن شاعريتي نحو مسرح الجريمة، نحو المواجهة بين المدينة وفقهاء الظلام؛ ولذلك نسجتُ مع كاتبة السيناريو حكاية سورية أبطالها يواجهون الحرب بصمت وبعيداً عن الصراخ، لكن هذه الحرب لا تلبث أن تجبرهم على اتخاذ المواقف، مبدّلةً خط سيرهم إلى مصائر سوداء دامية، فالدين والعائلة والقتل والإرهاب والسياسة والفساد عندما تقف في وجه الحب، كلها عناصر تصبح معقولة لصياغة كارثة محترمة».

 

(السفير)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى