«هيبتا…» محاضرة أخيرة لاستعادة جمهور الرومانسية

أمل الجمل

«لا نتوقف عن الحب عندما نشيخ، لكننا نشيخ عندما نتوقف عن الحب». إنها جملة ماركيز التي نستعيدها عندما نرى الوجوه المختلفة – نساءً ورجالاً – في أعمار متباينة تتراوح بين سن الشباب والمراهقة والشيخوخة، في قاعة المحاضرات بجامعة القاهرة وهي تنصت بشغف واهتمام إلى الدكتور شكري (ماجد الكدواني) وهو يختتم محاضرته قائلاً: «كلنا عاوزين نحب، كلنا نقدر نحب، بس لازم نعرف إن ثمن الحب هيتقسط على كل دقيقة من عمرنا»… وذلك أثناء حديثه عن «قواعد هيبتا»، أو المراحل السبع التي يمر بها الحب، بعد تعريفه لـ «هيبتا» بأنها مرادف للرقم سبعة في اللغة الإغريقية ضمن أحداث الفيلم الرومانسي «هيبتا… المحاضرة الأخيرة» للمخرج هادي الباجوري الذي قدم من قبل تجربتي «واحد صحيح» و«وردة».

الجمهور يتجاوب
منذ اليوم الأول لبدء عرضه تصدر «هيبتا» شباك التذاكر وهو ما أعاد إلى الأذهان النجاحات التجارية لـ «عمارة يعقوبيان» و «الفيل الأزرق». فعلى رغم أنه بدأ عروضه في 46 دار عرض، إلا أن أمام تزاحم الجمهور ونفاد التذاكر منذ اليوم الأول، تم فتح عشر قاعات أخرى لتستقبل المشاهدين لتبلغ دور العرض 56 قاعة. هذا التجاوب من الجمهور، وتصدّر شباك التذاكر أثار مجدداً كثيراً من الدهشة وعلامات الاستفهام. لماذا كل هذا النجاح؟! ربما يكون السبب أن «هيبتا» مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب محمد صادق، والتي تصدرت أعلى المبيعات وطُبعت منها 36 طبعة منذ صدورها في 2014.
لو نحينا جانباً الأخطاء التي تشوب العمل، لا يمكن إنكار أنه تجربة سينمائية لها أهميتها لأنها تحمل دلالات عدة منها، أن السينما الجيدة لم تخسر جمهورها تماماً، وأنه لا تزال هناك شريحة كبيرة جداً من الجمهور تتعطش إلى الذهاب إلى السينما، خصوصاً ممّنْ هم في سن الشباب، وليس فقط مَنْ هم في سن المراهقة، وأن جمهور السينما ليس قاصراً على نوعية أفلام الأكشن أو الكوميديا بدليل أن «هيبتا… المحاضرة الأخيرة» فيلم رومانسي وبمجرد بدء عرضه تجاوزت إيراداته إيرادات الأعمال الكوميدية المطروحة إلى جواره! لكن، أليس هذا في حد ذاته مؤشراً إلى أشياء أخرى منها مثلاً أن الناس في مختلف أعمارهم متعطشون إلى الحب، خصوصاً في ظل ظروف مجتمعنا الحالية. وهنا يجيء فيلم «هيبتا» في هذا التوقيت وهذه الأجواء الصحراوية ليعدهم، بالحديث – ليس فقط – عن الحب ومعضلاته، ولكن أيضاً عن مراحله وكشف أسراره، وسحره وجنونه، من دون أن يبخل عليهم بأن يُفسر لهم لماذا فجأة يختفي هذا الجنون وينتهي الحلم، وتتبخر الوعود قبل أن يطرح تساؤله: «تفتكروا مفيش أمل؟!» ثم يمنحهم بصيصاً من الأمل بأنه في الإمكان الحفاظ على هذا الحب، إذ يجيب بإرادة وإصرار: «لأ… فيه أمل». هذه الجملة الأخيرة المقتطعة من حوار بطل الفيلم – ضمن الإعلان الترويجي له – كانت عامل جذب لكثيرين، من دون أن ننسى أنه يضم عدداً كبيراً من النجوم مثل: ماجد الكدواني – نيللي كريم – أنوشكا – شيرين رضا – ياسمين رئيس – عمرو يوسف – أحمد داوود – كندا علوش – هاني عادل – أحمد بدير، وذلك رغم أن بعضهم اقتصر دوره على أن يكون مجرد ضيف شرف، ورغم أن أحمد بدير في أسوأ أدواره وأبهتها على الإطلاق.
أضف إلى ما سبق الأغنية الجميلة التي أدتها برقة الممثلة دنيا سمير غانم، والتي سبقت عرض الفيلم ضمن الحملة الترويجية له، والتي تجاوزت حاجز المليون مشاهدة في أقل من 48 ساعة فقط من بداية عرضها، فالأغنية تم تطعيمها بلقطات من الفيلم ولقطات أخرى مصورة لدنيا في أماكن تصوير «هيبتا» نفسها، والحقيقة أنها أقوى بكثير من الفيلم، رغم أن مخرجها هو هادي الباجوري نفسه.
بالطبع تحقيق أعلى الإيرادات في كلا الوسيطين – الأدبي أو السينمائي – ليس دليلاً على القيمة الكبيرة لأي منهما، فعند تقويمنا مثلاً للفيلم فنياً وفكرياً، لن نعتبره عملاً عظيماً أو لافتاً رغم أهمية موضوعه. صحيح أن التصوير واختيار الأماكن لهما جمالياتهما الخاصة بفضل مدير التصوير جمال البوشي، إلا أن الفيلم على مستوى الإخراج يقترب من أسلوب الفيديو كليب. الفيلم كتب له السيناريو وائل حمدي الذي سبقت له كتابة فيلم «ميكانو» وبعض المسلسلات. هنا في العمل كثير من الهنات والعيوب رغم المهارة الواضحة في رسم بعض المشاهد وكتابة أجزاء من الحوار. فكثير من المشاهد لم يتم إشباعها عاطفياً على مستوى الكتابة نتيجة ابتسار المشاعر أو ما وراء المشاعر، ربما ساهم في ذلك تعدد الشخصيات الرئيسية والفرعية، وأيضاً قوة أسلوب المحاضر مقارنة بالنماذج التمثيلية المقدمة.
في محاضرته يصطحب الدكتور شكري جمهور المستمعين في رحلة عن معضلة الحب، أزماته وصعوباته وأسباب انهياره من خلال مراحله السبع بما ينطوي عليها من أخطاء وأعباء وألم ومشاعر متناقضة، وكيف يتحول أحياناً الحب إلى كره، وذلك من خلال أربع قصص في أعمار مختلفة، أربع قصص مختلفة في الصيغة والأزمات والبدايات والنهايات، لكن يتضح في نهاية الفيلم أنها كلها قصة واحدة – مع تغيرات طفيفة – تُعبر عن رحلة الدكتور شكري نفسه وعلاقات الحب التي مر بها في الطفولة والمراهقة والشباب والنضج، وكيف بدأت علاقاته المختلفة مع النساء اللائي قابلهن؟ ولماذا فشلت تجاربه الثلاث بينما صمدت علاقته الأخيرة؟

لماذا تنتهي الحكايات؟
لا شك في أن أسلوب السرد أحد مشاكل الفيلم، فالمتلقي يتساءل: لماذا يترك الأحبة بعضهم هكذا بتلك السهولة؟ أين محاولات إنقاذ الحب، ومراراته وحسراته القوية التي سمعناها من الدكتور شكري أثناء المحاضرة؟ فما شاهدناه من تمثيل لم يكن في قوة الأفكار الفلسفية والتفسيرية للمحاضر، والتي كان يضع نفسه فيها مكان الأبطال الذكور والإناث ليلتمس لهم الأعذار. صحيح أننا شاهدنا دموعاً وانتحاراً، موتاً وحزناً يخيم على الوجوه، لكننا لم نتفاعل ولم نتماهَ معها جميعاً طوال الوقت بقوة التجاوب نفسها مع أسلوب الدكتور شكري.
أيضاً تكشف الخاتمة التي تحترق مع مشاهده الأولى للفيلم، جانباً من مأزق السرد وتسطح الشريط السينمائي، لأن أهمية الأفلام لا تكمن في معرفة النهاية، القيمة الحقيقية للأفلام تتضح من أسلوب البناء السردي وتراكم التفاصيل واحدة فوق الأخرى مثل عملية تكوين الجنين الذي يكتمل مع المولد. اختار السيناريست أن يحكي أربع قصص بالتوازي، إلى جانب المُحاضر، ثم في النهاية يخبرنا بأنهم جميعاً قصة واحدة ويفعل ذلك من دون أن يترك للمتلقي فرصة لاختبار ذكائه، بل يُؤكد ذلك مرات ثلاثاً، كأنه يفترض الغباء في المتلقي. ففي الثلث الأخير يهتف صوت من قاعة المحاضرة: «يعني الشخصيات كلها تحكي قصة واحدة؟». وفي المشهد الأخير تسأل شيرين رضا المحاضر الذي نفهم أنها كانت زوجته وإحدى بطلات حكاياته: «ليه ماقلتش اسمي الحقيقي؟ وليه قلت اسم رؤى؟»، ثم في اللقطة الأخيرة تسأله نيللي كريم التي تلعب دور الزوجة: «ليه قتلت يوسف في النهاية؟»… فالتساؤلات الثلاثة السابقة أخذت من الفيلم بدلاً من أن تكون قيمة مضافة له. أما أخطر ما في الشريط السينمائي أنه يقتل الشغف في العودة إلى الرواية لقراءتها لأن المتلقي سيشعر – ورغم بعض الملل المتسرب في عدد من المشاهد – بأنه حصل على كل شيء، ولن تضيف إليه الرواية جديداً يُذكر.
بقي أن نشير إلى أن دور الفنان ماجد الكدواني كان الوحيد المعرّض لأن يسقط في فخ الخطابة والمباشرة ومع ذلك جاء أداؤه في المرتبة الأولى، نجح رغم أنه يُجسد شخصية رجل كهل مريض ظل جالساً على الكرسي فوق خشبة المسرح طوال الفيلم يظهر فقط بين حين وآخر ليشرح، أو يفسر، أو يُمهد لتطور ما. لم يكن أمام الكدواني إمكانات كثيرة، فقط تلوين نبرات صوته. كانت أحباله الصوتية هي البطل الأول القادر على التنقل بين مختلف المشاعر الإنسانية بمهارة، بين الرقة والحب والإرادة القوية والتعاطف، ثم هيئته وملامح وجهه المعبرة عن رجل حكيم متواضع هرسته الحياة بآلامها واعتصرت روحه وجعلته أقرب إلى رجل متصوف. نجح الكدواني في أن يترك روح الشخصية تلبسه تماماً، لأنه كان مدركاً أنه هو الشخصيات كلها، درس دخائلها وتفاصيلها جميعاً، من هنا نجح في التعبير عنها أقوى مما فعل الممثلون الآخرون. ربما الوحيد الذي اقترب منه عمرو يوسف، وإلى درجات متفاوتة أيضاً أحمد داوود، أما المفاجأة فكانت شيرين رضا، فعلى رغم دورها الصامت القصير جداً إلا أن بعينيها، بدموعها المحبوسة في حدقتيها، بفرحها وتصديقها وشغفها بما يُقال في المحاضرة، كانت تتحدث بصوت قوي بليغ في صمته.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى