رسول محمد رسول: قراءة النص الإبداعي ليست أبداً قراءة لبيانات مصرفية

محمد الحمامصي

في إطار فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 26 تقدم مؤسسة بحر الثقافة برنامجا حافلا بالندوات والأمسيات التي تتطرق لقضايا الأدب والفكر والتعليم.

وقد شهد جناحها ندوة للدكتور رسول محمد رسول بعنوان “فنجان قهوة مع القراءة” ألقت الضوء على دعوة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، بأن يكون عام 2016 عاماً للقراءة. ومن ذي قبل (سبتمبر/أيلول 2015)، كان الشيخ محمَّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، قد أطلق مشروع تحدي القراءة العربي.

وأكد د. رسول أنه يمكن وصف هاتين الدعوتين بالجوهريتين كونهما تلقيان المسؤولية علينا جميعاً؛ تلقيها على عاتق المؤلِّف والناقد والقارئ في المجتمع من أجل الدفاع عن الحق بالمعرفة والثقافة والإبداع لضمان مستقبل خال من الأمية والجهل، مستقبل مفعم بالتنوير الثقافي والمعرفي والجمالي.

وقال: لقد حملت دعوة رئيس الدولة ونائبه، بتأصيل “القراءة” في المجتمع مسوِّغات هكذا مشرع إماراتي واعي، وهي دعوة إصلاحية تنويرية ثقافي مجتمعية، فهو يعتقد أنَّ “تأسيس اقتصاد قائم على المعرفة، وتغيير مسار التنمية ليكون قائماً على العلوم والابتكار، وتحقيق استدامة للازدهار في دولتنا، لا يكون بإدمان استيراد الخبرات من الخارج، بل بغرسها في الداخل، ورعايتها حتى تكبر لتنشئة جيل متعلِّم قارئ واع لتطورات العالم الذي نعيش فيه، وملم بأفضل أفكاره وأحدث نظرياته في كافة القطاعات.

وهذا يعني أن هدف القراءة كاستراتيجية جديدة إنما هو هدف تنموي مجتمعي راهني ومستقبلي لا بد لتحقيقه من التوافر على القراءة التي هي “المهارة الأساسية لجيل جديد من العلماء والمفكِّرين والباحثين والمبتكرين”. فالقراءة، وبحسب دعوة رئيس الدولة، إنَّما هي “تفتح العقول، وتعزز التسامح والانفتاح والتواصل، وتبني شعباً متحضِّراً بعيداً عن التشدُّد والانغلاق، وهدفنا ترسيخ دولة الإمارات عاصمة ثقافية عالمية بامتياز، وإحداث تغيير سلوكي دائم، وتحصين ثقافي للأجيال القادمة”.

أما عن العلم فقد قال: “سيبقى مفتاح الازدهار هو العلم، وسيبقى مفتاح العلم هو القراءة، وستبقى أول رسالة من السماء للأرض هي اقرأ”.

وأضاف د. رسول “في هذه الدعوة رغبة بتأصيل القراءة كمنهج (بيداغوجي) تعليمي، وتأصيلها أيضاً بوصفها أداة حيوية لمحو الأمية وإحياء العلم، فبها يتجدَّد العقل الإماراتي المعاصر، ويتجدَّد عطاء الازدهاء عبر العلم والتنمية المعرفية لصناعة مستقبل زاهر الوجود.

كذلك في هذه الدعوة رغبة بتأصيل المنحى الثقافي للقراءة، فبالقراءة تنمو إرادة التسامح والانفتاح بين البشر لاجتثاث الجهل، وتقويض كل صور وأشكال التعصُّب الدِّيني والعرقي والمناطقي والثقافي.

إن غاية القراءة في دعوة رئيس الدولة ونائبه هي ذات أهداف متعددة، لكن يبقى الهدف الرئيس هو الإنسان؛ فغاية الإنسان هي أن يعيش العصر بكل علومه ومعارفه، وينجو من كوارث الجهل بكل أنواعه عبر القراءة التنويرية لا الاستهلاكية.

وتساءل د. رسول عن المقصود بالقراءة التنويرية؟ ومن هو القارئ الذي يقرأ قراءة تنويرية؟ وبالتالي ما الذي نقرأه في رواية على سبيل المثال؟

وقال “إن القراءة في حدِّ ذاتها هي فعل ثقافي، أما الجانب التنويري فيها، وأقصد (ما هو تنويري)، إنما هو الجانب التواصلي الجمالي الذي ينطلق من الإيمان بوجود المؤلِّف، وليس موته كما ذهب إلى ذلك الناقد الفرنسي رولان بارت، ويؤمن بوجود الناقد وليس موته، كما ذهب إلى ذلك الناقد رونان ماكدونالد، أو ليس نفيه أو تهميشه كما يذهب إلى ذلك بعض الذين لا يروق لهم وجود قارئ حيوي في عالم المعرفة.

وبذلك، فإنِّ القراءة التنويرية الجمالية تؤمن بوجود كل واحد من هؤلاء الثلاثة بوصفه ذاتاً بشرية لها وجودها الخاص بها، وهي (ذات) إنسانية تواصلية تسعى إلى ملاقاة غيرها بحرية خلاقة وفق إحساس أخلاقي بكل ما هو جميل، وشعور حقيقي بكل ما يمكن أن يتضمنه النص.

وأشار إلى إن هذا المنحى التنويري الجمالي لا يكون إلاّ بوجود المؤلِّف والقارئ والناقد معاً؛ وجود ذواتهم وعقولهم ومخيالهم وتذوقهم الجمالي في لقاء كتابي – قرائي – نقدي، لقاء فردي أو جماعي سيشكِّل، مع مرور الوقت، مجتمع الصُحبة القرائية التنويرية الجمالية، تلك الصُحبة التي تضيئوها الذات الإنسانية، ويضيئها العقل الإنساني، ويغنيها المخيال الإنساني، ويضمُّها الوجود الإنساني؛ ويقوي كيانها التذوُّق الفني الحر؛ صُحبة مجتمع إنساني تواصلي تُنقذ القراءة من النسيان. وهو ما تريده دعوة الشيخ خليفة بن زايد، ودعوة الشيخ محمَّد بن راشد آل مكتوم.

ولفت إلى أن من مهام القراءة التنويرية الجمالية رغبتها بتفكيك رموز المقروء أو الكتابة، وتحليل شفراتهما، وإعادة بناء المقروء عبر تجديد إنتاج الكتابة؛ الكتابة بوصفها فعلاً إنساني الوجود، وذلك هو فعل القراءة الجمالي في منحاه الفلسفي.

وتساءل د. رسول أيضا عن أسباب وصف القراءة التنويرية بأنَّها (جمالية)؟ وما الذي يجعل قراءة أخرى يمكن وصفها بأنها غير جمالية أو قراءة استهلاكية؟ ورأى إن قراءة “كشف الحساب المصرفي” لأجل معرفة مصروفاتنا الشهرية ليست قراءة جمالية، إنَّما قراءة منفعية آنية غرضها الحصول على معلومات عن رصيدنا المالي، كما أن قراءة “وصفة طبية” هي الأخرى ليست قراءة جمالية، وكذلك قراءة “علامات المرور”، فهذه القراءات غير جمالية كونها ترتبط بغرضية استهلاكية آنية مقيَّدة النِّطاق والغاية، إنَّها قراءات استهلاكية، قراءات لليومي العابر الذي لا يترك أثراً روحياً في حياة الإنسان القارئ.

أما القراءة الجمالية، فهي من نوع آخر، إنَّها قراءة لا تهدف إلى غايات عابرة، لأنَّها قراءات تواصلية محكومة بالذوق الإنساني الفني الجمالي كونها تسعى إلى غايات روحية خاصَّة بالنَّفس البشرية بعمق لا غرض مادي أو استهلاكي لها سوى بناء الروح، بناء الذات، بناء الخيال الخلاق، بناء العقل الإنساني، بناء المتعة المنزه من كل غرض استهلاكي، فسواء اتفقنا مع ما يريد الروائي أن يقوله في كتابة روايته أم اختلفنا معه من الناحية الأخلاقية، ستبقى علاقتنا مع هذا العمل أو الأثر الإبداعي هي علاقة جمالية منزَّهة من كل منفعة مادية ممكنة، وبذلك نحقَّق الملاقاة الإنسانية التواصلية الجميلة الحرة.

ولهذا، يمكن وصف القراءة بـ “الجمالية” كونها نتاجاً للعلاقة الحرة بين المؤلِّف والقارئ والناقد معا. وهكذا قراءة يمكن وصفها أيضاً بأنَّها “تنويرية” لأنَّها تعتمدُ العلاقة المتلازمة بين هذه الأقطاب الثلاثة، فكل عمل هؤلاء فيما يكتبون ويقرؤون إنَّما هو قائم على الملاقاة الإنسانية والروحية والعقلية والجمالية التواصلية الحرة ليس بعيداً عن العالم من حولهم بكل ممكناته التي يتوافر أي أحد من هذه الأطراف عليها وفق طريقة إحساس روحية بالجميل المنزَّه من أية منفعة أو مصلحة عابرة أو استهلاكية.

وأجاب د. رسول عن تساؤل ما الذي نقرأه؟ وقال “في داخل (منْ يقرأ) وهو يساوي (القارئ)، يوجد الانفتاح التلقائي على النَّص برغبة ذاتية وإرادة إنسانية حرة، وبتطلُّع شخصي لقراءة ما يُمكن أن يُقرأ، وما يُمكن أن يُقرأ هو ممكن إنساني – معرفي – جمالي – إبداعي يضمه النَّص المقروء، وهنا سنختار الفن الروائي؛ نختار روايات عدة، على سبيل المثال، لنستدل بها على ما يمكن أن يُقرأ في كينونة النَّص السَّردي، وهو:

1. إن ملاقاة ما يمكن أن يُقرأ إنما تبدأ بإرادة الاقتبال على القراءة، تبدأ بالشروع نحو ملاقاة الكتاب الذي يُقرأ، وكلاهما رغبة داخلية لدى القارئ، كلاهما يبدأ، أول ما يبدأ، بملاقاة العنوان؛ عنوان الكتاب، عنوان الرواية، عنوان المسرحية أو المجموعة القصصيَّة.

تبدأ ملاقاة العنوان بالنَّظر في عدد مفرداته كملفوظات سردية في العمل الإبداعي، الرواية والقصَّة والمسرحية والقصَّة القصير والأقصوصة، هل العنوان في واجهة الغلاف جاء إلى ملفوظ واحد مثل رواية (شاهندة) لراشد عبدالله، أم بملفوظين مثل رواية الطاهر وطار (الولي الطاهر) أو رواية (رامة والتنين) لإدوار الخرّاط أو رواية فؤاد التكرلي (الرجع البعيد)، أم هو بثلاث ملفوظات كرواية عبدالرحمن منيف (حين تركنا الجسر) أو رواية الطاهر بنجلون (تلك العتمة الباهرة)، أو رواية نبيل سليمان (جداريات الشام نمنوما).

أم هو بأربع ملفوظات مثل رواية (سماء قريبة من بيتنا) لشهلا العُجيلي، أم هو بخمس ملفوظات مثل رواية باسمة يونس (حتى آخر الشهر.. حديث يناير). وقد يكون العنوان يأتي إلى ملفوظ معرب مثل عنوان رواية طارق بكاري (نوميديا) أو رواية فتحية النمر (كولاج). وقد يكون العنوان متضمناً لملفوظ رقمي مثل رواية جورج أورويل (1984) ورواية علي أبوالريش (الغرفة 357). وفي بعض الروايات توجد عناوين رئيسة تتبعها عناوين مكمِّلة لها تبدو فرعية مثل عنوان رواية باسمة يونس (حتى آخر الشهر.. حديث يناير).

2. الغلاف الأول والغلاف الأخير بكل ما يضمّان من دلالات مرئية مقروءة كالعنوان المركزي، والعنوان الفرعي، واللوحة التشكيلية مثل غلاف رواية (مريوم) للدكتور عمر عبدالعزيز، أو الصور الفوتوغرافية الظاهرة في سطح أحد الغلافين، واسم الكاتب أو المؤلِّف أو الناص (Textor)، وعلامة دار النشر المفرد أو المشترك (العلامة التجارية)، وألوان الغلافين، والمساحات الفارغة في فضائهما المكاني، وسُمك حجم الكتاب، وصورة المؤلِّف في الغلاف الأخير، وربما الغلاف الأول في بعض الأحيان كما هو الشأن في رواية باسمة يونس (حتى آخر الشهر.. حكايات يناير).

3. ملفوظات التوثيق في الصفحات الأولى؛ دار أو دور النشر، سنة الطبع، عدد الصفحات، مكان الطبع، قطْع حجم الكتاب، عدد الطبعات، الترقيم الدولي، جنسية المؤلِّف، ملفوظ حقوق التأليف والنشر، تحذيرات حقوق النشر.

4. جسديَّة المتن النَّصي؛ العتبات أو النُّصوص المحيطة، الإهداءات، ملفوظات عتبية موازية (Seuil)، أي “تلك العناصر التي تؤطِّر النَّص من الخارج، وتؤثر في القارئ بصورة ترسم من خلالها توجّهه نحو النَّص”( ) أو تلاقيه مع المتن الحكائي أو السَّردي مثل كلمات نيتشه وماركيز في رواية (نوميديا). عدد أبواب وفصول المتن النَّصي، تقسيم الفصول، ترقيم الفصول، اللوحات التشكيلية أو الصور الفوتوغرافية المستخدمة في المتن النَّصي في غير الغلاف مثل رواية (نادجا) لأندريه بريتون، نوع الخط وحجمه، البياضات في الصفحات وفواصل الفقرات في كل صفحة وبين فصول المتن النَّصي، فضلاً عن النقاط الذي يلعب استخدامها فعلاً دلالياً مؤثرا.

5. طبيعة الروي – الراوي؛ الروي بضمير المتكلِّم كما في الكثير من الروايات، ومنها رواية (ثؤلول) للميس خالد العثمان، وبضمير الغائب كما يتجلى في الكثير من الروايات أيضاً ومنها روايتي الكاتب السعودي عبدالعزيز الصقعبي (حالة كذب) و(طائف الأنس)، وأيضاً في رواية باسمة يونس (حتى آخر الشهر .. حكايات يناير).

الراوي العليم الذي يحيط بكل تفاصيل المبنى الحكائي والسَّردي، الراوي من خارج الحكي، الراوي المشارك في الحكي كما في رواية باسمة العنزي (قطط إنستجرام)، وكذلك في رواية (ثؤلول)، ورواية شهلا العجيلي (سماء قريبة فوق بيتنا)، ومن ثم رواية محمود شقير (مديح نساء العائلة). اسم الراوي إذا كان مشاركاً في الحكي كما في روايتي (ثؤلول) ورواية (سماء قريبة من بيتنا)، تعدُّد الرواة في رواية علي المعمري (همس الجسور)، ورواية محمود شقير (مديح لنساء العائلة)، تعدُّد مسارات الروي كما في رواية طارق بكاري (نوميديا) بين عيش مباشر واسترداد لحكاياته السالفة.

6. مدارات الحكاية؛ الصغرى، المتوسِّطة، الحكاية الكبرى أو المركزية. في رواية (سماء قريبة من بيتنا) يبدو عمل “جمُان” في المخيمات مداراً حكائياً جزئياً، ويبدو مرضها بالسرطان مداراً حكائياً ثانياً، كذلك تبدو حكايتها مع “ناصر”، هي الأخرى، أحد المدارات المتوسطة كونه رافقها مكانياً وزمانيا. وفي رواية نوميديا لطارق بكاري تبدو حكاية “جولياً” مداراً مهماً لا يختلف عن مدار الطبيب النفسي وغيرها من المدارات الحكاية في الرواية.

7. الشُّخوص أو الفاعلون في المتن الحكائي؛ أسماءهم (رواية مديح نساء العائلة نموذجا)، كنياتهم (رواية حارس الموتى نموذجاً)، أعمارهم، جنسياتهم، أدوارهم في الحكاية الكبرى والحكايات الصغرى، مناورات وجودهم وحضورهم (رواية نوميديا) نموذجا، طبيعة شخصياتهم النَّفسية؛ رغباتهم ومغامراتهم الجنسية كمغامرات مراد في (نوميديا) ومغامرات عابر ليطاني مع أنثى ميتة في حارس الموتى)، ميولهم المرضية كميول مراد في (نوميديا)، اتجاهاتهم الفكرية والأيديولوجية والحياتية المجتمعية (رواية مديح نساء العائلة)، محطّات حياتهم داخل الحكي وتحوّلاتها عبر الزمن (حكاية سلوى في رواية ثؤلول).

8. علاقة المؤلِّف بكتابته، علاقة المؤلِّف بنصِّه، طريقة المؤلِّف في كتابة المتن النَّصي للرواية، طريقته في تسريد الحكاية بكل مداراتها، طريقته في رسم الشُّخوص وأسمائهم وهيئاتهم الجسمانية والجسديَّة والوجودية، مساراتهم النَّفسية، قوى الخير والشر لديهم، أدوارهم في الحكي، علاقاتهم فيما بينهم، أساليب عيشهم اليومية كما توجد وتظهر في الحكي، ما ترمز إليه الشَّخصيات من معان تاريخية.

وخلص د. رسول إلى إنَّ قراءة نص إبداعي هي ليست أبداً قراءة لبيانات مصرفية تخص معلوماتنا المالية إنما هي قراءة ذواتنا عبر قراءة ذوات الآخرين وقراءة ذوات الآخرين عبر قراءة ذواتنا. القراءة التنويرية، هي قراءة تواصلية، هي ملاقاة جمالية إنسانية تفاعلية تحتفي بالخلق الإبداعي البشري الذي يُضيء العالم من حولنا.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى