الجرح الثائر في شعر محمد نصيف

وصال الدليمي

< يمثلُ الشاعر العراقي المبدع محمد نصيف الخط الوطني الثائر في القصيدة، ولا سيما بعد احتلال العراق عام 2003. له نضاله بالقلم الوطني الذي طالما أغنى الساحة الأدبية بأبرز القصائد اعتزازاً بالوطن ومفاخرةً بأمجاده، ورثاءً لشهدائِهِ، وتصويراً لواقع مثخن بالجراح، واقع أنهكتهُ النوائب والنكبات.
وحين يتعرض الوطن إلى الانتكاسات أو النكبات يصبح القاسم المشترك بين كل من يكتبون عنه كما يقول نزار قباني «الثورة والرغبة المشتركة في تغيير جلد العالم العربي، وتغيير دمه، هذا هو الهدف العام، الذي تركض باتجاهِه كل الخيول، وإن اختلفت طريقة الركض وأسماء الجياد». فحلّق الشاعر نصيف «على أجنحة الجراح» ديوانهُ الوطني المنشور عام 2012م، فنراه يبكي أشجان العراق تارةً، ويثورُ على مكائد الأعداء وتخاذل الأشقاء تارةً، وتستثارُ روحهُ حنيناً ووجعاً على زمنٍ مضى في وطن البهاء والشموخ تارةً أخرى: هذي جراحي جمرةٌ ورمادُ/ موصولة الآلام يا بغدادُ/ هذي جراحي كم لجمتُ لهيبها/ لكنهُ بجوانحي وقادُ/ وتحجَّرت وسط العيون دموعها/ إذ لم يَعُد يَسع الجراح ضمادُ/ بغدادُ قولي هل سمعت توجّعي/ سحقت ضلوعي غربةٌ وبعادُ/ ومخالبُ الشوق الأليم تنازعت/ قلبي وأدمى مقلتيَّ سهادُ». مشهدٌ موجع تأرجَحَ بينَ طرفي معادلة أحدهما (صوت الشاعر) متمثلاً بجراحاتِهِ وحزنِهِ ووجَعِ الفراق، والطرف الآخر (بغداد) تلك المدينة العريقة بكلِّ ظلالها وأبعادها وعمقها التاريخي، التي جرّدها الأعداء بعد الاحتلال من هيكلها التاريخي من دون القدرة على اختراق لبنتها الأساس، جراحاتٌ لا يوازيها في الوصف إلا الجمرة والرماد! لهيبها وقّاد يخترق الجوانح، يكتسح الضلوع ولا سبيلَ لإطفائِهِ! وكم كان ذلك التجسيد عبرَ أسلوب الاستعارة المكنية ناجعاً في جعل النص أكثر عمقاً وإيحاءً: ومخالبُ الشوقِ الأليم تنازعت/ قلبي وأدمى مقلتيَّ سهادُ». فـ«الشوق» تلك اللفظة الرقيقة التي طالما استثمرها الشاعر العربي قديماً وحديثاً للبوح عن رقة مشاعره ولهفتِه إلى الحبيبة أو الوطن أو الأهل، تتحول هنا دلالة تلك المفردة إلى دلالة قاسية مؤلمة باستعارة الشاعر لمفردة «مخالب» التي تُنسَبُ للوحوش المفترسة ثم نعَت الشوق بصفة «الأليم» واندرجت من «مخالب» بشكل تلقائي «تنازعت» ثم تبعتها «أدمى مقلتيَّ سهادُ» فكان شوقاً مأسوياً يسحقُ الروح بقسوة ويستمرُّ متسائلاً، مستغرباً، متعجباً من إدبار زمن كانت فيه بغداد معقل الشعراء والعلماء:
هَلْ أنتِ بغدادُ التي شعراؤها/ أودى الهوى بقلوبهم فأجادوا!/ بين الرصافةِ إذ تمرُّ وجسرها/ سودُ العيونِ تُحرَّقُ الأكبادُ». وكأنهُ هنا يستحضر بيت علي بن الجهم: عيونُ المها بين الرصافةِ والجسرِ/ جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري».
ويستمرُّ نشيجهُ في بنيةٍ تضاديّة قائمة بين الزمنين (الماضي والحاضر):
ذبحوكِ يا بغداد، كيف تجرأت/ وتقاسمت أضلاعكِ الأوغادُ/ سرقوا البريقَ وأطفؤوك بظلمهم/ إن انطفاءَكِ للغزاة مُرادُ/ جعلوا البيوتَ مقابراً فتناثرت/ حتى استوت بركامها الأجسادُ». «ذبحوكِ يا بغداد» عبارةٌ اختزلت الكثير من مجريات الأحداث الصعاب والنوائب المدمّرة عبر أسلوب الاستعارة المكنية، وعبرَ لغة التجسيد (سرقوا البريق وأطفؤوك بظلمهم) أضحت أحلامهم المستحيلة ممكنة لا بل حقيقة نعيشها في واقع مر!
إنهُ هنا يصرخ في «يا عراق الحقِّ دُمْ» يستثير الهمم، يستنهض الشباب:
يا رفيق الدرب هيّا/ إن ليل الظلم عَمّ/ نوقدُ النورَ بعصرٍ/ أطبقت فيه الظُلَمْ/ قد تمادى الشرُّ عَسَفاً/ ما رعى فينا الذممْ/ يصرخُ الجرحُ احتجاجاً/ إنَّ هذا الجرحُ فَمْ/ يا عراق الحقِّ دُمْ/ للعلى صوتاً ودَمْ».
أرى هنا نقلةً نوعية في مضمون النص، وهو استثارة الهمم واستنهاض الغيارى، فالشاعر هنا تخطّى موجة الألم والحزن والعتاب والبكاء على ما مضى، والتي تركزت كثيراً في نصوص الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد، الوطن المحتل بحاجة إلى الكلمة الثائرة المنتفضة الرافضة للواقع، المقاومة للظلم والاحتلال، وهذا لا يعني تجرّد الشاعر من حنينِهِ إلى ماضي وطنِهِ والمفاخرة بأمجاده، إنما الذي أقصدهُ هنا هو التركيز على إحياء النفس الثائرة. يستدعي الشطر الثاني من البيت الرابع على سبيل التناص بيت الشاعر محمد مهدي الجواهري:
أتعلم أنت أم لا تعلمُ/ بأن جراح الضحايا فمُ».
مع فارق مستوى عمق الجرح بين زمن الجواهري وزمن نصيف!
ومن «شرفة الاغتراب» يطلُّ علينا الشاعر يرقبُ حبيبتهُ على استحياء ولهفة يُناجي تلك الحبيبة المقدّسة «بغداد» وغالباً تكون المدينة في مخيلة الشاعر أُنثى فاتنة يتمنى وصلها ويُعاني من هجرها!
هلّي عليّ صباحاً ملؤُهُ ألقُ/ بغدادُ يا من بروحي حبَّها عبقُ/ نامي على صدري الدافي ولا تهني/ فأنتِ وحدكِ من يحلو بها الأرقُ/ فما عشقتُ ضياءً نالَ من غَسقي/ إلا إذا كان من عَينيكِ ينطلقُ».
لا شك في أن لبغداد ألقاً خاصاً ونكهة متفردة فيصبُّ الشاعر لها عصارة روحِهِ الرومانتيكية، ويجسدها على هيئة حبيبة فتفيضُ مشاعرهُ كالموج هادرةً تنساب من خلال مفردات وتراكيب أسلوبية قائمة على الطلب والرجاء والنفي والتقديم والتأخير والاستفهام المفضي إلى التعجب والتشبيه والاستعارة.
فيقـول: هلّي لنمضي لعلّي أرتجي وطناً/ يؤوي الطيور ومنهُ الشمسُ تنبثقُ/ ونُلبسُ العشقَ أثواباً ندورُ بها/ بين المدائنِ كالأطفال نستبقُ/ نقولُ للناس هذا العشقُ فاعتنقوا/ فإنهُ خاسرٌ من ليس يعتنقُ/ وخابَ من لم تكن بغداد تشغفهُ/ حبّاً ومن ليس بالعشّاقِ يلتحقُ».
فعلى المستوى التركيبي نجد هنا أن «الأنا» عند الشاعر كانت تتقمص (نحنُ) في عدة أفعال وصياغات (هلّى لنمضي – لا تفسدُ الأحلام صحوتنا – لنملأ الكأس طيباً – ونُلبس العشق – نقول للناس) دليلٌ على الخروج عن الحسّ الفردي إلى الحس الجماعي فهو حنينٌ نابع عن شعور جماعي، وعشق جماعي، ومن يتخلف عن تلك الجماعة يكون شاذاً وفقاً للمقاييس المنطقية التي تربط بين الإنسان وبيئته.
وينطلق في «اغضب يا عراق»: اغضبْ فقد ضاقَ الخناقْ/ أوقدْ لظاها يا عراقْ/ ملكَ الرقابَ لئيمُها/ وتسلطت زمرُ النفاقْ/ سَرَقوا رغيفَ الجائعين/ وأطعموا الشعبَ الزعاقْ/ كبضاعةٍ بيعَ العراق/ وللصوصِ بهِ سباقْ/ والعرضُ مهتوك الحمى/ ودَمٌ بلا ذنبٍ يُراقْ/ أزفَ القصاصُ أرى رؤو/ساً أينعت.. شدّ الوثاقْ/ حانَ القطافُ وصبرنا/ كجراحنا مرّ المذاقْ».
يتحدث عن سلطة فاسدة بمفارقة موجعة «ملك الرقاب لئيمُها ……». يتلوها ذلك التشبيه القاسي المفعم بالمرارة حيث يشبّه بلداً بحجم العراق تاريخياً وعربياً (ببضاعة) أو غنيمة يتسابق اللصوص على اقتسامها. هذا الانحدار الواقعي نتج عنهُ انحدارٌ نفسيٌ عميقٌ لدى الإنسان العراقي، فانقلبت الموازين في واقع هشٍّ مرير أُهدرت فيه قيمة الإنسان فـ(العرضُ مهتوك الحمى… ودمٌ بلا ذنب يُراق)! أزفَ القصاصُ أرى رؤو/ساً أينعت.. شدّ الوثاقْ/ حانَ القطافُ وصبرنا/ كجراحنا مرّ المذاقْ». يستدعي البيت مقولة الحجاج بن يوسف الثقفي الشهيرة عندما تولى ولاية العراق: «إني أرى رؤوساً قد أينعت وحانَ قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأرى الدم يترقرق بين العمائم واللحى». لغة الشاعر محمد نصيف جزلة الألفاظ، تمتلك مهارة التصوير بإيقاع موسيقي متدفق، تصوير الواقع المؤلم تصويراً يلامس أحاسيس المتلقي، يتجاوز منطقة التأثير الموقت إلى التأثير الذي يحقق التواصل الكلي بين المبدع والنص والمتلقي، الواقع الذي يتحول في نصوصه الشعرية إلى جرح نازف، وغضب، وثورة ضد الظلم. ذلك الجرح الثائر في صوت الشاعر محمد نصيف الذي سيبقى صادحاً إلى أن يندمل بعزٍّ وكرامة أو يبقى ينزف حتى الموت النبيل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى