تشكيليون يستلهمون أعماله في بيروت: «أبجدية حنظلة»… رؤية ناجي العلي فنياً وسياسياً

زهرة مرعي

لا يزال حنظلة رمزاً إنسانياً وقوياً للحياة. لم تهدأ جاذبيته للباحثين في فن الرسم. ففي بيروت معرض بعنوان «تجليات حنظلة»، شارك فيه اكثر من عشرين فناناً تشكيليا، فرسموه كل على طريقته.
ظهر حنظلة بتقنيات الكولاج، بالألوان الزيتية، الأكواريل، وكان للحصى أن تحدد تكويناته الجسدية بقوة، الأكريليك، نحتاً، غرافيك وحرقاً على الخشب. عبر كافة تلك التقنيات الفنية ظهر حنظلة أمام جمهور واسع. وفي هذا المعرض كان حضور خاص للفنان عبد الحليم حمود، وهو رسام كاريكاتير معروف. أبحر بحثاً في فن ناجي العلي متناولا بالتحديد الجانب التشكيلي منه. التشكيل أساس في مسيرة العلي لكنه شبه منسي في نظرتنا لنتاج فن الكاريكاتير بشكل عام، فالتصويب على الرسالة السياسية أو الاجتماعية منه. خلال المعرض كان كتاب «أبجدية حنظلة» قيد التوقيع.
يوضح حمود لـ«القدس العربي»: التاريخ المقاوم الذي سطره ناجي العلي في حياته، إضافة إلى استشهاده، سلط الأضواء عليه من الباب النضالي، فيما غُيب الجانب التشكيلي الفني الذي يتجلى على مستوى الخطوط، وأسلوب التعامل مع الكتلة والتوازن. كذلك غُيبت ولادة الفكرة، وماهية ثقافته. ولم يحك عن الرموز المسيحية في فنه، البعد السيريالي، والرسوم التي تحتوي على الكثير من التعليقات. وبعد مرور هذا الزمن على الاغتيال هناك ضرورة لأن نقرأ ناجي العلي بهدوء كفنان».
نتائج تبحر حمود، بشخصية حنظلة أفضت إلى ملاحظات عدة هي: كان حنظلة منحني الرأس ركيكاً في بعض المفاصل التركيبية التشكيلية. صارت له بنية أقوى في السنوات العشر الأخيرة التي سبقت اغتياله. في هذه المرحلة من حياته قدّم لوحاته بنضج وتوزيع غرافيكي، على عكس بعض من أعماله السابقة التي يمكن وضع إشارات حولها.
بالسؤال إن كان التشكيل مقتصراً على شخصية حنظلة؟ أم هو يشمل باقي مكونات اللوحة عند العلي، يحدد الفنان عبد الحليم حمود رؤيته بالقول: إنها حركة تفاعلية عامة. النضج متشعب بشكل كلّي. بمعنى أنه مع اختمار الأصابع والحبر كان التطور كلياً. حتى أنه أعاد صياغة بعض من رسوماته في السبعينيات خلال سنوات عمره الأخيرة، وكأنه يريدها، أن تدخل من جديد الحيز التاريخي بهذا النضج التشكيلي، مع تغير بسيط عبر كلمات وأحرف. وفي بحثي التفصيلي الدقيق بفن ناجي العلي وجدته يكرر لأنه كان يرغب بتقديم الفكرة نفسها بنضج أكبر. مع ملاحظة أن الرسم لجريدة «السفير» اللبنانية، يختلف عن الرسم لجريدة «القبس» الكويتية، وكذلك عن «القبس» اللندنية.
يُعرف أن ناجي العلي ينتمي في فنه لمرحلة الحداثة في فن الكاريكاتير الذي بدأ ينمو في الخمسينيات من القرن الماضي. السؤال كم حقق العلي تطوراً وتميزاً؟، يقول حمود: «نما وتطور فكره وريشته في الفضاء اللبناني. عملياً هو كان مكرراً ومتشابهاً مع بيار صادق، ديران عجميان، ملحم عماد، جان مشعلاني، نيازي جلول وغيرهم. فهناك أسلوب لبناني موحد مبني على الحدث، وعلى شخصية اللبناني المسمى مرة توما وأخرى أبو خليل. كذلك نهل ناجي العلي من مدرسة «روز اليوسف» و»صباح الخير»، وبدورهما تأثرتا بالمحور الاشتراكي من العالم.
وكان مبرراً لرسم ناجي العلي عدم الانتماء للكاريكاتور اللبناني من حيث الفكرة. فهو كان يشعر وكأنه يتطفل على الفن اللبناني برسم هذا الرئيس أو ذاك الوزير، فهو كان يدرك أن من عادات الشعوب أن يتحرك لديها البعد العنصري، وكان ينأى بنفسه عن أي رد يقول، «انت فلسطيني فلماذا تتدخل في شؤوننا الداخلية». كان لناجي قضيته الكبرى والمركزية ومن مصلحته أنه تميز بالخروج من آنية الزمن والفكرة. رسم أفكاراً حرّة في فضاء حر، وحول قضية واضحة المعالم.
وجد حمود في سيريالية ناجي العلي تمرداً فطرياً. يفسر استنتاجه ويقول: ولد العلي في قرية الشجرة ومنها نزح إلى لبنان. تنقلت عائلته بين المخيمات حتى رست في عين الحلوة. درس بتقطع. انتسب لدورة تدريبية في مدرسة ألكسي. عمل في بساتين الليمون. كان له تقاطع يومي مع الفقر والظلم الذي يتعرض له اللاجئ الفلسطيني في لبنان. واقع يستفز أي انسان فكيف به إذا كان يحمل ثقافة ناجي العلي؟ مع فكره وموهبته تضاعف التمرد. في تحديده للخصائص السيريالية في كاريكاتير ناجي العلي يقول حمود: في بعض لوحاته كان له منحى سيريالي مخفف، هو أقرب إلى رينيه ماغريت منه إلى سلفادور دالي. حوّر بعض العناصر المبسطة من دون أن تفقد اللوحة سياقها المنطقي. أدرك أنه لا يتوجه إلى جمهور نخب. في رسم ربط سكة الفلاحة بطائرة معادية فحركتها. وكأن الفلاح يقول للطائرة المغيرة أستغلك لفلاحة أرضي رغم كونك تحتلين أرضي. ناجي سيريالي كبير إنما قدماه بقيتا على الأرض. مارس سريالته في خدمة قضيته ومن خلال عقل فانتازي. مرر سيرياليته بجرعات مخففة، لم يرغب في مسافة بينه وبين الناس. أن يتحول فن الكاريكاتير إلى النخبوية فالأفضل أن يكون في صالات المعارض وغيرها، وليس عبر صحف شعبية تصل للناس.
نادراً ما خلت لوحة كاريكاتيرية لناجي العلي من وجه مريم العذراء أو من صليب. فهل حملته ريشته إلى الصليب؟ يقول حمود: في مرحلة من مسيرته اتخذ الصليب توقيعاً له. كتب اسمه بمقاربة مع الصليب. رسم وجوهاً أيقونية متسعة العين وبسكون. كانت وجوهه في حالة تأملية، وفي حالة ذهنية فلسفية، ثابتة، ساكنة لا نعرف إن كانت حزينة أم فرحة، ضاحكة أم متأملة. كان للصليب حضوره في رسومه. فكرة الفداء لدى السيد المسيح ألهمت ناجي العلي، فدخل هذه السلسلة الجلجلة. في بعض لوحاته قطع شجرة النخيل إلى قسمين، ليكون الجزء الأعلى أفقياً، وحولها إلى صليب. الشهيد ناجي قدم لوحة تحمل هذا البعد المسيحي وهو المسلم، بدون الالتفات للعقول المتعصبة التي قد تنفر من فكرة الصليب نفسها. رسم أفكاره بدون عقد بروح يسارية إيجابية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى