تشوهات أبدية في ‘جسد الحرائق’

قاسم ماضي

في عوالم الرواية العجيب والغريب، والكثير من الحقائق المكشوفة، وغير المكشوفة، كلها تخترق الصدر الملتهب من نيران الغربة، التي أرهقتنا ونحن نشتاق الأوطان، ونخاف منها من أن تأكلنا بلا رحمة، تلك ثيمة تجسدت عبر أنساق رواية واسيني الاعرج الذي يئن من وطأة الظروف التي عاشها في غربته، وهو يُسطرها في ملحمته كي يزفها لنا عبر نسيج سردي (حكائي) تتلاطم فيه الأحداث الواقعية والمتخيلة عبر تناغم موسيقي مشدود وملغوم بمفردات الألم “هذا هو عالم باريس الخفي، عالم تُشوى فيه الأجساد البشرية، وتوشم بالنار والحديد المحمر” (ص 135).

وهذه العوالم التي أدخلنا فيها ليست عالماً واحدا، وإنما أنفاق متعددة يعالجها كطبيب نفسي يُدخل ارواحنا ويصب فيها روحاً أخرى، كي يسهم في إطفاء الإشتعال الداخلي الذي اكتوينا به عندما تركنا أوطاننا.

“عندما تكون غريباً عليك أن تعرف أن عالمك محاط بحدود، قد تكون السبب الأول في هلاكك لا شيء يحميك، إلا نباهتك التي قد تخونك أحياناً حتى في مكان عملك، ولا تتفطن للكارثة إلا عندما تشم حرائق جسد يتلوى بفعل النار كقطعة بلاستيكية” (ص 135).

وكأنها إطلاقات نارية يوجهها الكاتب، وأقصد هنا كاتب الرواية، ليخلق لنا فضاءات تمتزج امتزاجاً في كينونتا، المكان، والروح، والفكر ونبض الحياة، والذات التي تراقب وترصد وتتبع الفرح والألم، كل هذا في خيوط اللعبة التي يرسمها المبدع، ونستنشق عبيرها عبر رحلة مضنية بين الصخب والسكون أو الإنسحاب أو التصدي، هذه الرحلة يعيشها الكاتب أو الروائي، فكيف إذن مع كاتب قصصي له باع في كتابتها.

وهو يتخيل الكثير من الحكايا ليصفها لنا، ويخلق أجواءها الممتعة بحرفة عالية، ويعطينا الدروس والعبر، ومنذ تصفحك أوراق الراوية الأولى، تجد نفسك في آهات يعبر عنها الكاتب الأعرج تلامس بشكل كبير المرء المغترب الذي أبعد عنك الكثير من القضايا التي تخص حياتك، وهو يضعك في صورة هذه الحياة الصعبة التي كرهتها نتيجة ما يحطيني منها من تراكمات ومشاكل، وكأنه فاحص بصر خبير في هذه الحياة.

“ما زلتُ إلى اليوم أنتظر عودته لكي أتمكن من تحمل مشقة الحياة وقسوة عزلتها” (ص 5).

هذا التيه العجيب الغريب الذي مررنا به، وهو تيه الغربة الذي ينبشه نبشاً، وهو يفصله لنا تفصيلاً على مقاس القارئ، وكأنني أطرق رأسي خجلاً لما لم أعرفه من هذه الحياة الإغترابية التي سببت لنا الكثير من الصراعات الذاتية التي تحطينا من كل صوب وحدب.

“تيه الغربة القاسي” (ص 5).

ثم يعيد شخوصه الإغترابية إلى أرض الوطن، لتدفن فيه، وهذا دليل على أنه يعطينا دروساً وحكماً، ليعلم الأجيال التي تهاجر إلى دول أوربا إنها مخطئة، وعليها التمسك بحب الوطن، وهذا ما أراد أن يقوله لنا.

“وغفر لعشيقته كل الحماقات التي ارتكبتها معه، لأنها علمته كيف يعيش حياته وهو على كف عفريت، وكيف يعود إلى وطنه وهو في عز حبه لها، ليموت على تربته الأولى صافيا كقطرة ماء سقطت من شجرة عالية ذات فجر ربيعي” (ص6).

هذا الكاتب القاص والروائي الجزائري واسيني الأعرج الذي يدخلك في عوالم السرد المذهلة ويصوغ منها عبارات وكلمات ساحرة تشدك منذ بداية الرواية إلى آخر مفردة من مفرداته، بلغة راقية ومتميزة وخزين معرفي لا يوصف، يقول عنه الدكتور الناقد العراقي عبد اللطيف الراوي الاستاذ في جامعة وهران في عام 1978: “إن هذا النتاج الواعي، برغم حداثته، يحتاج إلى تجريد قلم يدرسه باستيعاب ويعطيه حقه” (ص11).

“تفو … تفو على كل تلفونات الدنيا، فهي لا تحمل إلا أخبار الشر والموت والفجائع”.

“شاحب يحمل بين قسماته تعاسة العصر وغباء البشرية، يصطف داخل عينيه طابور العذابات اليومية، كل شيء يعيده إلى الخوف الذي لم يكن قادرا على مقاومته” (ص11).

هذه الرواية الأولى لواسيني هي لحظة خروج من دائرة القصة القصيرة، الضيقة والمكثفة إلى فضاء أوسع هو الرواية، ومن مسؤولية أدبية محدودة، إلى مسؤولية فنية أعقد.

وهذا الغوص في موضوع المعاناة التي يعيشها المغترب، وانا منهم نعاني الكثير الكثير من القضايا التي تحيطنا في مجتمعاتنا الإغترابية، غير أن الحلم شيء والواقع شيء آخر، وهذه الشخوص في جسد الحرائق ومنهم “كريم + رشيد” وغيرها تتحرك أمامنا وكأننا أمام شريط سينمائي ينسج الوقائع بكاملها. وكما يقال قوة الرواية ليست في عقدتها، فهي معروفة منذ اللحظة الأولى، ويتم الكشف عن أسرار القصة منذ البداية، ولكن قدرة واسيني تكمن دائما في إعادة تركيب الوقائع ونسجها وبنائها من جديد لتكوين عالم روائي متميز. (ص16).

في عالم الغربة قرأت الكثير من الروايات ولم استطع إكمالها، ولكنني وجدت في هذه الرواية ما أريدُ قوله “لا تنسى أنك أجنبي، وأن عليك واجبات كثيرة تجاه الأرض التي حمتك من الخوف والحاجة! (ص135).

تلك إحدى الرسائل الموجهة للمغترب العربي الذي يشعر بتنامي القيود عليه بسبب تطور مسيرة الصراع التي أفضت الى تلك الصورة النمطية التي اجترحها الغرب تجاه الفرد العربي.

لقد حاول القاص والروائي واسيني الاعرج ان يرصد واقعا ًمعاشا ًبمختلف تشابكاته وتناقضاته عبر متخيل سردي ونجح في تسخير الصنعة السردية الروائية لإيصال فكرته الرئيسية وبأسلوب جذاب.

ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى