مازن الرفاعي: أرسم الوجه الآخر اللامرئي للمشهد

محمد شرف

يعرض الفنان مازن الرفاعي، بدءاً من نهار غد الخميس 5 الحالي، ولغاية 18 منه، في غاليري «روشان» (صيفي فيلاج) مجموعة من أعماله الجديدة يقارب عددها العشرين، وذلك تحت عنوان «بيت في الحقول». تتمحور موضوعات الأعمال المعروضة حول مشاهد بقاعية ـ بعلبكية كما يراها الرفاعي. حول هذا المعرض وما يتضمنه من منطلقات تشكيلية جديدة كان لنا مع الفنان هذا الحوار.
] لقد أصبح في رصيدك ما يزيد عن عشرة معارض فردية كنت أقمتها منذ بداية مسيرتك الفنية، ما الذي يضيفه المعرض الحالي من جديد إلى نتاجك ؟
ـ ربما كانت الإضافة الأهم بالنسبة لي هي طريقة الرؤية، فقد اكتشفت بعد تأمل عميق بأن الحدث الحقيقي هو الذي يحدث في الداخل لا في أي مكان آخر، إذ تتم في هذا الحيز الذاتي المواجهة الحقيقية مع أسئلة الزمن، ومع الحب والموت والألم، وكل ما يعتمل الذات الإنسانية من مشاعر متناغمة أو متناقضة. كما اكتشفت أنني لا أرسم المنظر الطبيعي لذاته، بل أحدد علاقتي به، وكأنني أرسم الوجه الآخر، اللامرئي، للمشهد الذي لا معالم محددة له ولا مظاهر. من هنا، أعتقد أنني أقوم بـ «تدجين» بياض اللوحة، مستعملاً ألواناً لا ترمي إلى استحداث شفافية مطلقة إلاّ عند تخطيها العين، لتتسلل إلى الداخل وهي مخصّبة بالمعاني والأحاسيس.
هذا الأمر هو بحسب اعتباري نوع من الارتحال نحو المطلق، وطريق للوصول إلى الحلم الواقع ما بعد الذاكرة، وهي ذاكرة تتمحور حول مدينة بعلبك التي أتصوّرها كما أتصوّر العشيقة. أنا لا أرسم المكان في ذاته، بل أطمح إلى بلوغ شاعرية الأمكنة، أي المعنى السرّي المصنوع في الداخل، وهي صياغة تعمل على الصمت وعلى الاختصار وإيحاءاته، ويتم ذلك كله عبر محاولة لكسر صخب الحياة، والتخلّص من تعقيدات العالم الذي نعيش فيه.
] انطلاقاً مما ذكرت، وكما نلاحظ في أعمالك السابقة، يبدو أن الموتيفات أو الموضوعات التي تعالجها لهاعلاقة مباشرة بالأرض والمكان، هل يتكرر هذا الموضوع وتتكرر الأمكنة ذاتها في معرضك الحالي؟
ـ أنا لا أرسم المنظر بل علاقتي به، لوحتي هي عبارة عن مشروع للكشف عن هذه العلاقة وتنظيمها تشكيلياً. فالمشهد هو، بالنسبة إلي، مناسبة من أجل الإفصاح عما يختلج في نفسي من أحاسيس تجاه ما أراه، وهو المجال الذي ينعكس فيه المزاج اليومي، لذا، أحاول أن لا أكرر المنظر الطبيعي بالرغم من وحدانيته، وكي لا أشعر بالملل تجاهه، وكأن المنظر الطبيعي يشبه العشيقة التي أذهب إليها باندهاش في كل مرة. فبعلبك السهل ليست فقط ذاك المكان الموضوعي الواقعي، بل هي المكان الآخر الذي قد لا أراه أمام عيني، الذي هو ثمرة الخميرة التي هندستها الأيام، إنها، بالنسبة إلي، أشبه ببطاقة هوية.
البعد التأملي
] من أجل عكس ما ذكرته من الناحية التشكيلية ماذا يمكن القول عن الأسلوب الذي أتبعته في معالجة الموضوعات المذكورة، وهل يختلف عن الطريقة التي عالجت بها أعمالك السابقة؟
ـ في هذا المعرض اكتسبت لوحتي، كما أعتقد، بعدها التأملي من خلال تحريرها من تصويريتها أي تكوينها الواقعي، لتصير فضاء تتفاعل من خلاله السياقات اللونية، وتتحول اللوحة الى صلة وصل بين الأرض والسماء، بين الامتلاء والفراغ، لتذهب بعيداً في اللامنظور.
هنا اختزلت اللوحة الى مسطحات أفقية متتابعة شبه متوازنة، البيت في السهل مرئي من بعيد، إنه في حالة تأمل، وهو لا يستفز العين لكونه مركوناً في زاوية من المشهد، بل إن ما يستفز العين هو المشهد بكامله، والصمت الكثيف لهذا التتابع الهادئ في المسطحات. أما الألوان فهي مصنوعة، كما المشهد، في الداخل، ولا تتماثل مع ألوان الطبيعة المرئية، إذ تعرّض اللون والضوء إلى نوع من الاختزال، وكأن التركيز حصل على روحية المكان، وليس على مظهره الشكلي.
] هناك معالجات عديدة كنا رأيناها لدى فنانين بقاعيين أو غير بقاعيين للمشهد الذي نحن في صدده، ما الذي يميز رؤيتك الخاصة لهذا الفضاء البقاعي؟
ـ إنني أتساءل دائماً إذا ما كان للمنظر البعلبكي، وما يلتصق به من عناصر كالمدى، والضوء، والصمت، والفراغ العميق، أثر ما في دفع الفنان الى التوقف من زاوية تشكيلية أمام هذا المشهد وكأنه طارئ بصري في الطبيعة. أعتقد أن ما يجمعني مع فنانين آخرين هي علاقة العين بهذا الفضاء كإطار مادي يراه الجميع، لكن المعالجات تأتي مختلفة لدى كل فرد. لقد سبقتني بالطبع تجارب عديدة لأجل معالجة هذا الفضاء، وأحاول شخصياً معالجته من خلال إيقاعات الألوان في الفراغ الأبيض. في هذا الفراغ أو الفضاء حيث تسبح الألوان تختصر الضربات عناصر المنظر في اتجاه بناء علاقة خاصة بي، أي أنني أغني وأطرب على طريقتي ومزاجيتي، محاولاً تصوير عالمي الداخلي الشديد البساطة، لذا، فإن النفس الغنائي الشاعري يصبح طاغياً، فأنا مسكون أبداً بمكاني الأول، ولم أشعر يوماً أنني أنتمي إلى مكان آخر. هذا المكان أعيد تركيبه وصوغه من جديد على طريقتي، طامحاً إلى أن أعيش أحلامي السرّية قدر المستطاع.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى