دايفيد كرونونبرغ يتابع مسيرته السينمائيّة… روائياً

انطوان جوكي

نعرف دايفيد كرونونبرغ مخرجاً كندياً أنجز أفلاماً تبلبِل مُشاهِدها بمناخاتها الغريبة بقدر ما هي مرعبة. نعرف عنه أيضاً، اهتمامه الكبير بالأدب الذي يشهد عليه اقتباسه أفلاماً من روايات شهيرة، مثل «الوليمة العارية» لويليام بوروس، و «كوزموبوليس» لدون ديلّيلو، و «المنطقة الميتة» لستيفين كينغ، و «حادث سير» لجايمس غراهام بالار. لكن ما لا يعرفه معظمنا، أن هذا السينمائي العملاق وضع رواية وحيدة منذ بضع سنوات تحت عنوان «مستهلكون»، صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «غاليمار»، وتضارع بمواضيعها الجريئة وطريقة كتابتها أفضل أفلامه.
في حوار أجري معه لدى صدور هذا العمل في نيويورك عام 2008، سأله الصحافي لماذا اختار الكتابة الروائية هذه المرة بدلاً من إنجاز فيلم، فأجابه السينمائي بأنه من المتعذّر إخراج كتابٍ من هذا النوع. وفعلاً، تتجاوز هذه الرواية جميع ما أنجزه كرونونبرغ سينمائياً من حيث كثافة مشاهدها ومدى تعقيد حبكتها، علماً أن هواة أفلامه لن يصابوا بخيبة أو يشعروا بغرابة لدى قراءتها، لأنها، مثل معظم هذه الأفلام، تقارب الرهابات والاستيهامات الأكثر تطرّفاً، على خلفية مجون إعلامي وشره مرضي لآخر الابتكارات التكنولوجية.
وبالتالي، لا نبالغ إن قلنا أن كل مميزات كرونونبرغ ومواضيعه حاضرة في هذا النص: رؤى لأجساد معذّبة، مقطّعة الأوصال أو مشوّهة على يد أصحابها أو آخرين، أجواء مرضية مثيرة للاشمئزاز، انحرافات جنسية مختلفة وتكنولوجيا لا تحضر بأدواتها وآلاتها إلا لإشباع أخطر العُصابات (névroses). وكسينمائي بارع، لم يجد كرونونبرغ أي صعوبة في تشييد سيناريو يمسك بأنفاس قارئه حتى الصفحة الأخيرة.
شخصيات الرواية كثيرة، نذكر منها أولاً نعومي سيبيرغ وناتان مات، وهما صحافيان كنديان يعملان في صحافة التابلويد التي تعنى بالأخبار المثيرة، نعومي في ميدان الجرائم البشعة وناتان في الميدان الطبي. عشيقان، نراهما على طول الرواية يتنافسان مهنياً ويتنقلان في مختلف أنحاء المعمورة سعياً خلف سبق صحافي، وبالتالي لا يلتقيان إلا في الفنادق المحاذية من المطارات، هذا حين لا تقتصر علاقتهما على رسائل ومكالمات عبر الإنترنت.
هنالك أيضاً سيليستين وأريستيد أروستيغي، وهما أستاذان شهيران في قسم الفلسفة في جامعة السوربون الباريسية، وزوجان ماجنان لن تلبث قصّتهما أن تجذب نعومي. ففي أحد الأيام، يُعثر على سيليستين ميتة، مقطّعة الأوصال في منزلها. ولن تلبث الشرطة أن تشتبه بزوجها الذي «توارى فجأة عن الأنظار بعدما قتلها والتهم أجزاء من جسدها»، وفقاً للتحقيق. وهو ما سيدفع نعومي إلى تقفّي آثار أريستيد، التي ستقودها إلى طوكيو، بمساعدة طالب منحرف يدعى إيرفيه بلومفيست.
يتوجّه ناتان إلى بودابست لإجراء ريبورتاج مصوّر عن عمل جرّاح مشبوه يدعى زولتان مولنار، كان مطلوباً من الإنتربول بتهمة الإتجار بالأعضاء البشرية، ويمارس حالياً عمليات جراحية غير مشروعة. لكن بمضاجعته واحدة من المرضى الذين يعالجهم مولنار، يلتقط ناتان مرض «رويف» (Roiphe) الذي كان يُعتقد أنه توارى، فيقرر السفر إلى تورونتو للقاء الطبيب الذي اكتشف أعراض هذا المرض…
باختصار، قصّتان تبدوان لنا في البداية من دون أي علاقة ظاهرة بينهما، قبل أن تتشابكا تدريجياً لتشكّلا في النهاية قصة واحدة ضمن حبكة مثيرة تحمل بصمات كرونونبرغ التي اعتدناها في أفلامه. أما الرواية ككُلّ، فلعل أفضل وصف لها هو ما نقرأه داخلها على لسان أريستيد، حين حاول تبرير فعلته «المفترضة» أمام نعومي: «سيليستين كانت مقنعة في ابتكار تفاصيل مرضها والمؤامرة التي تحاصرها، إلى حد اتّخذ هذا المرض مادّية لا نقاش فيها، تماماً كما حين نجد أنفسنا مبتلعين كلياً في واقع رواية مكتوبة ببراعة».
وفعلاً، «مستهلكون» هي من دون شك واحدة من تلك الروايات التي تدفع قارئها إلى الاستسلام لها على رغم أن نسيجها لا يوحي إطلاقاً بالأمان. وكامتداد لعمله السينماتوغرافي، يمنح كرونونبرغ فيها شكلاً لهواجسه الخاصة المبنية دائماً على وقائع تحفل بها مجتمعاتنا الحديثة، ونقصد الانحرافات الجنسية التي سبق ذكرها، وأيضاً الموت بجمالياته القاتمة والأمراض الخطيرة بأدق عوارضها، وذلك ضمن هندسة تساهم في انزلاق القارئ داخل دوامة مثيرة للاهتمام والقلق معاً. وفي هذا السياق، يعمل كرونونبرغ على الأجساد المريضة أو المجازية، مستحضراً من خلالها مسألية الاستهلاك التي يمكن نزعة أكل لحوم البشر (cannibalisme) أن تشكّل التعبير الأقصى لها، ومعززاً وصفه العيادي الدقيق بما يتطلّبه من سخرية قارصة.
أما حبكته الهلوسية ذات الغرابة اللاواقعية بقدر ما هي رؤيوية، فتأسرنا على طول الرواية، علماً أن السرد في القسم الثاني من النص يعاني من مبالغات تزعزع قليلاً تماسكه وطابعه المحتمَل، كمسألة تأثير الفيلم الكوري الشمالي حول ثقافة الحشرات في عُصاب سيليستين أروستيغي الذي يصعب تصديقه ويضفي تعقيداً غير مبرر على الحبكة.
ومع ذلك، نستمتع إلى أبعد حد في قراءة هذه الرواية التي تكمن قيمتها خصوصاً في البورتريه الدقيق الذي تخطّه لمجتمعاتنا الراهنة التي تتحكم فيها نزعة استهلاكية مسعورة وخطيرة، كما تكمن في عنصر التشويق الذي يحمل نثرها ويمنحها طابع الرواية البوليسية من دون أن يخفّف من وقع خطابها الثري باستطراداته السيكولوجية والفلسفية الغزيرة، وباستشهادات لصامويل بيكيت وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار، ناهيك بأسلوب كتابتها الدقيق والبارد الذي يمنحنا الانطباع بمشاهدة فيلمٍ على مر صفحاتها. كما لو أن كرونونبرغ استعان بكاميرا لكتابة نصّها، بدلاً من قلمٍ أو حاسوب.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى