حاتم عبدالهادي ينثر دماء على جسر التايمز

سعيد رمضان علي

الحياة أبعد مما نتصور، حقيقية ينبغي أن نفطن اليها، ونحن نقرأ روايته “دماء على جسر التايمز” فهناك تناولات معتادة كتبت بطريقة غير معتادة، حملت في يد فكرة تطرح وفي يد أخرى نقيضها. هكذا الخيال يتماهى ويتمدد الواقع. ونكتشف المناظير المغايرة في الشخوص والمواقف الاجتماعي والسياسي والوطني، الانتقام ونقيضه.

الرواية تدعو القارئ لهذا النوع من التفكير، من خلال قصة على قدر غريب من الالتباس ما بين البساطة والتعقيد، حول الرجل السياسي والوطني والفحل الشرقي الذي امتلك صراعات داخلية ونفوراً من أوضاع معينة ورغبات انتقامية .

رواية كهذه لا بد وأن يكون قوامها شخصية تشع بريقاً، وفعلاً نكتشف أننا أمام شخص مهندم وأنيق ومن أول فصل نقرأ :

” ربما أعجبتك الفاتنة الشقراء .. لا عليك سأرتب لك موعداً… ستجيئك عند الفجر.. والآن لا بد أن أغادر، سيأتي جوزيف” بالشيكولاتة التي أحبها، إلى اللقاء.

لم أكن أدرك أن فتاة الملهى، لا تمزح، وأنها رتبت الموعد الذي طالما كنت أنتظره.

منذ شهور وأنا أتردد على ملهى “دانيت” تلك الراقصة الحسناء التي تشبه الخمر في صفائها. كنت أشرب بنهم، وأنفق المال ببذخ، لكنني لم أشعر يوماً هناك بالفرح الحقيقي”.

وهكذا تواجهنا الشخصية في انطلاقتها لنتبين من بين السطور طبيعة الذي يشعر بجسده ويحقق رغباته منفصلاً تماماً عن مشاعر قلبه.

انه رجل قوي قرر وفعل، ومضى في أفعاله بخطوات ثابتة، واجه بتحد اكتشاف نفسه دون خجل أو تجمّل، أكثر جرأة من أشخاص آخرون في الرواية التي تختبيء تحت قناع زائف أو قناع من الودّ تجاه آخرين لمصالح ما .

ثمة عدد من العلاقات المحيطة ببطل الرواية، صاغها الكاتب في مهارة أنعشت الطرح وأكسبته ثراءً ونضجاً وازدواجية، تسمح لأن يظل ذهن االقارىء متيقظاً أمام أحداث الرواية ليتتبعها على مهل، مثلاً علاقة مايكل “بجولييت” زوجته الراحلة وعلاقته بسالي ودانيت التى يصفها :

“” دانيت تلك الفتاة البريطانية الشقراء.. كانت جميلة للغاية ومثقفة وشاعرة وقاصة”.

ان مايكل دوماً يملك العلاقات، لكن علاقته بزوجته الراحلة هي التي ترسم ملامح تحركاته الفعلية، ونعرف من خلال السطور التالية ما حدث لها :

” زوجته التي قتلتها رصاصات الغدر الصهيوني على (جسر لبنان العتيق)”.

كان الدم ينزف من قلبها الصغير، بينما ثغرها بدا مثل لؤلؤة تضيء مع شمس لبنان الشاهقة.

كانت تبتسم وهي تودع الدنيا بين أحضان حبيبها “مايكل”. كان الوداع أشبه بالصراخ الذي ملأ ندوب السماء.

وهذا الطرح الدامي يُعمّق التاريخ الذي يجمع بين شخصية مايكل وباقي الشخصيات، ويرسم له ملامح فاعلة الأثر بداخله، ويظل الطرف الغائب المفقود، حاضراً أبداً في تصرفات مايكل وذاكرته. إنها الأشكال التي حاصرت بطل النص في عزلته، حيث يجتر أحزانه صامتاً، محاولا الهروب منها بالخمر والنساء .

لكن علاقته بدانيت يصفها بشكل مختلف فهي الوحيدة التي استمتع معها بعد زوجته، وشعر معها بمتعة حقيقة بعيدة عن متعة الاختبار التي يجتازها في كل مرة يلتقي فيها بامرأة مختلفة، ربما وجد فيها بعضاً مما افتقده من زوجته. ربما وجد الحياة من جديد بعد الموت. ليكون التناقض السياقي في الجزئية الخاصة بسحر دانيت التي اختلف مصيرها عن مصير جولييت، فهى تريد أن تحيا حياتها ببساطة زوجة وأم، وفعلاً أصبحت أماً، وتنتهى الرواية بالأسرة معاً في المطار: مايكل وابنه وزوجته دانيت.

المعالجة في تناول بعض الأفكار كانت ذكية مثلاً قوله :

” أنت” سفير الفقراء والمشرّدين في العالم “كان أبوك هكذا، وعاهدته أن تدافع عن المهمشين والمقهورين والغرباء، وربما الحطّابين في الجبال، والعجائز والنساء المسنّات”.

وقوله في الفصل الثاني من الرواية:

” نعم انها العروبة الضالة مثلي في بلاد المنافي، حيث السكان أغراب بفعل آلة الغدر وأصوات القنابل، وصور الجثث المتفحمة والبنايات المحطمة بفعل طائرات الأباتشي التي تصدّر لنا كل صباح صراخ الأطفال، بدلاً من أناشيد الوطن في طابور الصباح في المدارس. لن يملّ الأطفال حينئذ من صنع بنادق من ورق ومسدسات من أقلامهم، ليحاربوا الأوغاد الذين قتلوا آباءهم وأمهاتهم، وتركوهم للتشرّد والضياع”.

إن ذكر العروبة يكشف عن الدواخل لمايكل ورغبته في الانتقام ممن قتلوا زوجته، ويدخله ذلك في متاهات المؤامرات والجاسوسية والمخابرات، وألعاب الخداع، لنكتشف انه استطاع أن يخدع من حاولوا تجنيده لضرب الوحدة الوطنية في البلاد العربية.

تقدم الرواية رهانها في إيمانها بالواقع الذي تحياه، الواقع المرّ الذي تجري فيه أحداث وتتحرك فيه شخوص مؤمنة بأدوات هذا الواقع ومؤمنه بالتغيير الذي يتم من خلال الرغبة في التغيير، الأمر الذي جعل من الصراع في مجتمع الغربة برمزيته العريضة صراعاً على مفاهيم التغيير نفسها، وكشف بعمق عن الطبيعة الدموية للسيطرة وتدمير الآخرين، والطبيعة الأخرى للمقاومة، وهو ما نجح فيه مايكل وانتهى ليكون بطلاً بدلاً من مدمن للخمر والحانات. وهو ما يجعل العنوان “جسر على نهر التايمز” كاشفاً للمضمون، فجسر قد يربط بين ضفتين أو مكانين أو تاريخين. أو يربط بين زمن ماض للشخصية، وزمنها الحاضر، وبين الزمنين يتدفق نهر الحياة.

والتايمز موجود بإنجلترا، الدولة التى صدر منها “وعد بلفور” لمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، ومن هذا الوعد انفجرت كل مآسي العرب، وهكذا يكشف العنوان ويرتبط بالموروثات والمشكلات المزمنة في صميم الذات الفردية وهى تتحرك عبر ضميرها الجمعي في الحاضر.

وما يؤخذ على الرواية هو السرعة في الوصول إلى ذروات متجنباً اختمار الموقف، أي “عدم سلقه على نار هادئة”، مما يوقع النص – في بعض مقاطعه – في السطحية ومما يجعل الرواية تبدو كأنها تقدم أفكاراً أكثر مما تقدم خيالاً روائياً، وأصبحت مجرد صدى لصوت واحد هو صوت “مايكل” الوحيد المسيطر على الحوارات القصيرة والأفكار.

لكن هناك تجربة جديدة لحاتم عبدالهادي وهي الرواية بعد دواوين الشعر والأبحاث والدراسات، وهي بذلك عمل يستحق التشجيع، لاسيما أن الرواية كشفت عن موهبة تملك قدرتها الابداعية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى