تاتيانا .. صاحبة الشّامة على الخد الأيسر

قيس مجيد مولى

يتعامل تورجنيف في روايته “مومو” مع العديد من أبطاله في هذه الرواية، ورغم إشارته لبطل محوري عبر الكلبة مومو، لكن القارئ يجد نفسه منسجما مع أكثر من شخصية وأكثر من حدث، وكأن تورجنيف أراد أن تكون الشخصية الرئيسة موزعة بالتساوي بين كل من ورد دوره إن كان هذا الدور صغيرا أو كبيرا مهما أو ثانويا، وذلك بفعل ما يقدمه لشخصياته وما يرسمه لهم من أماكن وتنقلات ومهام ومواقف وموجودات. وهذه الضخامة أو الفخامة في إحلال الشخصية لموقعها المناسب وتحريك هذه الشخوص وكأنه يقدم عملا مسرحيا ضمن تواصل الأحداث بلغة شعرية هنا أو هناك بفعل عاطفي ونفسي وبكشف واقعي لطبيعة العلاقات الإجتماعية وطرائق التفكير بين الطبقات العليا وبين الطبقات الدون وكذلك الإحتكارية التي تقوم بين السّيد والمسود.

يتخذ تورجنيف العاصمة موسكو مكانا لأحداث روايته عن امرأة أرملة لأحد النبلاء وهي تمارس تفكيرها الأرستقراطي مع حاشيتها التي تختلف في طبيعة السلوك وفي الرؤيا لقبول الحياة، فتجد من بين هؤلاء حارس الفناء (جيراسيم) وهو الشخصية الأكثر أهمية كونه شغل المساحة الأكبر من الأحداث (رجل أصم، أبكم، قوي البنية حد الإفراط حين إستخدامها) جاء بقطار الليل من الريف الى المدينة، وكان عليه أن يألف ما سوف يجب أن يتعود عليه.

والشخصية الأخرى التي تلتحق بسلسة الشخصيات الرئيسة (كابتيون كليموف) الرجل الإسكافي والسروجي المخمور والذي يمارس أحيانا واجبات الجراح البيطري وطبيب الخدم، هذا الرجل الذي يشعر بمظلوميته في الحياة وبأن الزمان جار عليه كثيرا، فلم يجد غير الشراب علاجاً لهذا الشعور، والشخصية الأخرى (جافريلو أندريش) كبير الخدم والمنفذ الرئيس لأوامر وتوجيهات السيدة الأرملة، أرملة أحد النبلاء، وتأتي ضمن الشخصيات الرئيسة (تاتيانا) إحدى غسالات المنزل، تلك المرأة البيضاء التي تعلو الشامات خدها الأيسر وتلك علامة على سوء الطالع ونذر بحياة تعيسة.

يذكر عن رواية “مومو” أنها لم تكن بمعزل عن المناخ الذي كتب تورجنيف معظم رواياته ومنها (رودين 1856 – في العشية 1860 – الأباء والبنون 1862 – الدخان1867 – وإصدارات أخرى توجها برائعتيه مذكرات صياد وبيت النبلاء)، وقد ظهر أول فعل مؤثر في رواياته وقصصه كنتيجة لإستبداد أمه وطغيانها وتعاملها الفظ مع المئات من عبيد الأرض (الأرقاء) الذين يعملون بإمرتها والفعل المؤثر الآخر كثرة ترحاله ما بين (فرنسا- المانيا –إيطاليا).

كما أن قصة حبه لمغنية الأوبرا الفرنسية بولين فيادرو كان لها فعل مؤثر في تجسيد حالته العاطفية تلك على شخوصه في رواياته وقصصه التي كتبها خلال تلك التجربة العاطفية.

رواية “مومو” تأتي للتعبير عن كيانه المختلط الأحاسيس في الوصول الى الذات المغلقة والتفتيش عن سببيتها (إحباط – ظلم – عاهة – كبح طفولي …) وغيرها من الأسباب التي تكون حاجزا في الخروج من العتمة الى العالم الفسيح، نجد تورجنيف قد استنسخ استبداد أمه (فرفارا) وطغيانها وألصق هذا الإستنساخ – أي تلك الطباع – بشخصية بطلته في مومو تلك الأرملة قاسية القلب.

إن تورجنيف وهو يحيط أبطاله المحبطين بعنايته ورحمته فيسكن آلامهم ورغباتهم وامالهم كي يراه القارئ واحداً من هؤلاء أو هؤلاء جميعا، كما أنه يأخذ بالضرورات ليبلغ بها النهايات وهو ما فعله مع مومو وحارس الفناء جيراسيم عندما منحهما قدرا كبيرا من فعله العاطفي ومن خياراته النفسية في تتويج تلك العلاقة التي جمعت بين الكلبة مومو وحارس الفناء.

إن إيفان تورجنيف في “مومو” يمثل ذروة الواقعية باعتماده التسلسل المنطقي والواقعي للأحداث واعتماد متحسسات لغوية معينة في بنائه الدرامي وفرزه للمفيد والمؤثر من تشكيلاته الباطنية.

 

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى