شريف رزق في «هواء العائلة» يتلبّسه الألم… وتقطنه المواجع

عاطف محمد عبد المجيد

يُعتبر الشاعر شريف رزق واحدًا من المبدعين القلائل الذين وُهبوا ناصية موهبتين اثنتين: موهبة الشعر وموهبة النقد. ولأنه كذلك، فإنه هو بنفسه أول من ينقد/ ينتقد أعماله قبل ظهورها أمام عينيّ القارئ، ونتيجةً لهذا يجيء نَصّه متماسكًا ومكثفًا وخاليًا، إلى درجة كبيرة، مما ينتقص جودة أي نص شعري.
رزق في ديوانه الأخير «هواء العائلة» الصادر حديثًا عن دار ألف ليلة للنشر والتوزيع، يثبت لنا أننا أمام شاعر متحقق يقف على قدمين راسختين فوق بلاط الشعر والإبداع.
بدايةً يلحظ قارئ «هواء العائلة» أن الشاعر فضَّل أن تكون كل نصوص ديوانه نصوصًا قصيرة (ثمة نصوص لا تتعدى السطرين الشعريين ونصوص لا تتعدى صفحة واحدة وأخرى لا تتجاوز صفحتين).. وهذا لا يدل ـ كما يقول البعض عن مثل هذه النصوص القصيرة ـ على أن الشاعر يمتلك نَفَسا شعريا قصيرا مما لا يُمكّنه هذا من كتابة نص مكتمل طويل.. وقد يكون هذا صحيحا في حالات أخرى.. لكننا أمام شاعر امتلك أدواته ووظّفها وطوّعها لخدمة نصه، وقد اختار الشاعر أن يكون نصه مكثفا ومركَّزا، خاصة وهو لا يميل إلى الثرثرة الشعرية التي تُضْعف النص أكثر مما تقويّه.
رزق يستهل ديوانه بمفتتح لهارولد بنتر يقول فيه: «العالم على وشك أن يتخلص من كل نوره وبهائه ليحشرنا في حفر عتمته الخانقة». هذا ولا يُعنون رزق قصائده، بل يُرقمها، ويقسّم الديوان إلى عشرة أجزاء، كل منها يحتوي على عدد متفاوت من المقاطع / النصوص الشعرية، أكثر الجزء الأول ويضم سبعة عشر نصًّا، وأقلها السابع ويحتوي على نصيْن فقط.
هذا الديوان/ هذه النصوص يمثل سيرة ذاتية للمواجع والعذابات التي عانتها الذات الشاعرة في محيط العائلة، وما سببه رحيل أفرادها تباعًا، بداية من الجدة، فالأخ، فالأب، فالأم. النصوص تحتوي حقيقة على كم موجع يشعر به قارئها، وكأنه كان يقوم بدور الذات الشاعرة فيها.

جحيم القصيدة

هنا يرصد الشاعر علاقاته مع أفراد العائلة والهواء الذي كان يتنفسه بصحبتهم، مثلما يرصد كذلك حال عزلته بعد تَبخّرهم واحدًا واحدًا وتلاشيهم موتًا:
«وحيدًا، في لقطة ليلية
أخرج من القصيدة، لأدخل
جحيمها
متدثرًا بهواء النهايات
وممتلئًا بعواء ذئب داخلي
وبحشد من الأيائل والضباع
على مقربة من جثتي
في نوبة شرسة من السعال
تعبرها المنازل».
هنا يمكن لي أن أنسب نصوص هذا الديوان إلى ما تعارف على تسميته بشعر الومضة، الذي من أهم ما يميزه هو استخدام تقنية التكثيف، واللجوء إلى توظيف أقل عدد من المفردات، في الوقت الذي تؤدي فيه هذه المفردات ـ على قلّتها ـ دور مئات المفردات الأخرى. في الديوان قصائد كثيرة تتراوح بين سطر شعري واحد وخمسة أسطر:
أيتها السماء:
«إلى أين يتوالى سحابك
بالرفاق؟»
ربما يرى بعضهم أن هذا النص المكثف يأتي مبتورا، وأنه في حاجة إلى تكملة غير أن الشاعر لو فعل هذا في نص أجاد في تكثيفه، لأفْقده جمالياته، التي ترتكز في الأساس على المساحة التي يتركها الشاعر للمتلقي، ليركض فيها جوادُ خياله، معطيًا إياه حريته الكاملة في تأويل النص وتفسيره كما يحلو له.. من دون أن يضطره إلى السير داخل هذا النص وفق سيناريو قد أُعدَّ له سلفًا.
«بعيدًا حتى عن جسدي
أجلس على شاطئ البحر وحدي
بريئًا من كل ما يحدث».
يبدو الشاعر هنا حكيمًا، وأحيانًا، فيلسوفًا يتأمل الأشياء من بعيد، مُقدّمًا لنا قراءته لها، ويتجلى ذلك واضحًا في عدة نصوص :
«كنمر جريح
بانتظار كارثة قادمة لا محالة
أو قيامة».
هنا نرى تلويح الشاعر بحالة العزلة المفروضة إجباريًّا على مُريدي الحقيقة فيما تُترك الساحة ـ بفعل فاعل ـ خاوية لأولئك الأفَّاقين الذين يجيدون ـ وبكل وضاعة ـ إزاحة الجواهر الحقيقية ليحل محلها كل ما هو زائف ومُزيِّف.في نص آخر يرصد الشاعر الحالة التي يعيشها ذلك المنعزل فارا من الواقع الرديء، الذي لم يعد يصلح لإقامته فيه ولم يعد له فيه مكان:
«لماذا أحس، بين وقت وآخر،
وأنا أتطلع إليكما معًا
أنني غريب عن هذه العائلة
وأنني في الحقيقة لست منكما أصلًا
وأنني أعيش حياة كئيبة
فكرت أن أكتبها يومًا ما في قصة بعنوان: المجهول».

علاقات وذكريات

في نصوصه هذه أيضًا يبحث الشاعر عن نفسه، عن علاقاته وذكرياته مع أفراد أسرته، الأم، الأب، الجدة، خاصة بعد رحليهم المفجع والموجِع بالنسبة له:
«أكثر أنحائي
ذهبت تباعًا
مع الموتى
وخلّفتْني
مقبرة جماعية
مثقلة الخُطا؟».
من ناحية أخرى نجد الذات الشاعرة في كثير من قصائد الديوان تعلن عن تحديها للواقع المأزوم الذي يُطبق عليها بأنيابه وبراثنه الخانقة وعدم قبولها لإملاءاته عليها التي يفرضها عليها حتى إن كان هذا الفعل يُكلّفه الكثير، خاصة بعد أن صار وحيدًا فيه:
«أين أنت الآن يا جسدي؟
أنتظرك على قارعة الظلام، وحدي
بلا مأوى أو رفيف
وأشعر أنني محاصر
بين ضحكات مكتومة تتقافز من حولي
وروائح شواء».
وكذلك نجد الذات الشاعرة في رحلة مد وجزْر قبالة الزمن الذي تبحر فيه غير أنه يُعارض رغباتها ويصدُّ أبوابه أمام أي فرصة لتحقيقها:
«إلى الآن لم أغادر الحوت
الذي التقمني
وتوغل في أعماقي
وأنا ابن خمسة أعوام».
ويحتوي ديوان «هواء العائلة» للشاعر الناقد شريف رزق على نصوص، لا أبالغ حين أصفها بالروعة، على الرغم من أنها لم تحتل من مساحة البياض إلا القليل.. مؤكدًا على احتوائها على قدر كبير من المتعة التي يحسها المتلقي أياً كانت درجة ثقافته، خاصة أن نصوص هذا الديوان نأت عن الغموض الذي يعيب كثيرا من نصوص هذه الأيام، بعد أن حوَّلها إلى معادلاتٍ رياضية لا يتمكن من حلها سوى دارسي الرياضيات، بل الأفذاذ فيها. وقد امتازت بسلاستها وسهولتها في الوقت الذي ابتعدت فيه عن المباشرة الفجة.
«هذه أمي
وهذا أنا الطائر الذي يتوقف على شباكها
في كل صباح
متلعثمًا بأغنية ما».

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى