«غاتسبي العظيم»… طاقة التّلقي والتّأثير وتساؤلات حول الكتابة العربية

رامي ابو شهاب

لم تكن قراءة رواية « غاتسبي العظيم» (1925) للروائي ف. سكوت فيتزجيرالد (1896- 1940) حدثا باعثا على البهجة، ربما لافتقادي للطاقة اللازمة لاستشعار المتعة القرائية، فمقاربة الكتاب أتت رغبة باكتشاف خصوصية هذا العمل، ومدفوعا بالبطاقة الشخصية الخاصة به أو «بالبروفايل» باعتبار هذه الرواية من أعظم الأعمال الأدبية في الثقافة الأمريكية، ولهذا كانت القراءة أشبه بمحاولة التقاط ملامح تميّز هذا العمل، وتحديد مساره في قلب المؤسسة الأمريكية الثقافية، على الرغم من أن كاتبها لم ينل شيئا من حظوة الكتاب ولا شهرته، فضلا عن عوائده المادية، فالكتاب لم ينل التقدير الكافي في حياة المؤلف.
لا شك في أن الثقافة الأمريكية هي نتاج حديث، نشأ مع استقلال الولايات المتحدة، التي سرعان ما استطاعت أن تخلق ذاكرتها الثقافية الخاصة، على الرغم من انتمائها إلى تيار الثقافات الأنكلوفونية. لقد استطاعت أمريكا أن تصوغ إبداعها ضمن منظورها الخاص، بل إنها أصبحت ذات طابع متميز، ونعني الطابع الأمريكي تمييزا له عن الآداب الإنكليزية، أو بريطانيا الاستعمارية. ولعل قيمة أي رواية وأهميتها، كما الإبداع عامة، يخضع لظروف تلقيه وسياقات تخلّقه، وهكذا تنشأ الرواية في ظلال تلقيها، مع أسئلة تتمحور حول مقدار ما سوف تضيفه إلى الثقافة التي نشأت فيها، والأسئلة التي سوف تجيب عنها، ومع ذلك، فربما لا تُدرك هذه الرواية أو لا تقدّر القيمة المنوطة بها، فبعض الثقافات تغفل عن إدراك أن عملا ما ينطوي على إشارات مهمة. فالولايات المتحدة الأمريكية إبان كتابة فيتزجيرالد لروايته كانت تشهد تحولاتها، وتبحث عن هويتها الخاصة، ومع زحف الثراء الاقتصادي، وأنساق من الثقافة، والموسيقى، ونمط معيشة معينة، فضلا عن إشكاليات اجتماعية، وهكذا وُجدت ثقافة جديدة تتمحور حول مفهوم الحلم الأمريكي، لقد كانت الرواية نتاج هذه الثقافة من حيث عملية التوصيف، والنقد، كما الاستشعار للمستقبل، ولكن هذا لم يدرك إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ثمة حاجة لرؤية انتقادية، وتوصيف لواقع لم ينتبه إليه، وهكذا نستنتج أن ثمة طاقة لبعض النصوص تحملها إلى تخوم الأبدية، والخلود، كما في هذه الرواية التي يمكن أن نستخلص من قراءتها بعض الملحوظات في ما يتصل بها وسياقاتها، علاوة على ما أثارته لديّ من تساؤلات تتصل بطاقة القراءة والتلقي في العالم العربي.
بداية نؤسس مقاربتنا على مركزية الأدب بكافة تجلياته الفكرية والجمالية، من حيث توصيف نسق تاريخي يمكن أن يقارب لفهم ثقافة ما، والملاحظ في هذا الموقع أن الثقافة العربية لا تتلقى سياقات فهمها الثقافي من أعمال كتابها، إنما تبقى هذه الأعمال أسيرة قراءات محدودة لأقسام الأدب إن وجدت، في حين أنه ربما تنتشر هذه الأعمال بوصفها عملا مميزا، غير أن هذا العمل يبقى غير فاعل في توجيه وتغيير العالم، فالحكومات والسلطات لا تأخذ بما في النصوص، كما أن معظم الآداب أو النصوص أو الكتب تمنع وتصادر إذا ما انطوت على مقاربة أو انتهاك لبعض التابوهات، وبذلك فإن الوعي الثقافي ينشأ مبتورا عن سياقات التوصيف والنقد ليفقد العمل طاقته، وهكذا تفتقد الثقافة توجيهات وتبصّرات بعض الكتب ووعي مؤلفيها الذين يكونون وضع إقصاء ضمن سياق السلطة، على الرغم من أن التاريخ البشري محكوم بالتغيير عبر الكتاب، ولنتجاوز القيم المتأملة المتعالية أو الرسولية الممثلة بالكتب السماوية، ولنتأمل في الكتب ذات الطابع الدنيوي، حيث تأثير هذه الكتب على الوعي البشري وصوغه، فجماليا وفي سياق المتخيل، نستذكر «دون كيخوته» لسرفانتس، و«الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«ألف ليلة وليلة»، و«جلجامش»، وفي مجال غير المتخيل ثمة كتب ابن خلدون، وهيغل، وماركس، ودارون، وآينشتاين. وهكذا تحتفي الكتب بمنظورها تجاه العالم، فهي معنية باللحظة، أو بالماضي، كما أنها ربما تحيل إلى أفق المستقبل، إنها تنطوي على طاقة الفعل المتولدة من التغيير، ولعل هذا ما تفتقر إليه معظم الكتب الصادرة في العالم العربي في الوقت الحاضر، فالعقل العربي منقاد إلى ثلاثة أقانيم: هيمنة السلطة على العقل، وهيمنة الموروث، وهيمنة الآخر «الغربي» ومنظوره، وبذلك فلا مجال لأي دينامية فاعلة، وبذلك تفتقد معظم كتبنا الطاقة اللازمة.
رواية «غاتسبي العظيم» ما هي إلا تمثيل للولايات المتحدة الأمريكية في حقبة زمنية معينة، ولكن هذا التلخيص الجمالي لم يخل من قيم، ونقد واضح، أي أن ثمة طاقة في النظر إلى المستويات التي انطوت عليها الثقافة الأمريكية من تشوّهات، طالت البنى العرقية والاقتصادية والاجتماعية، ومع ذلك فقد كان ثمة حب وشيء من الجمال الذي احتفت به الرواية، عبر تكريس منظور غاتسبي وحبه لفتاته التي كان ينظر لها من قصره المنيف، يراقب أضواء بيتها، غاتسبي الذي أثرى نتيجة الجريمة والمافيا، غاتسبي الذي أنتجته ثقافة ناشئة سطحية، وعالم يعشق الأضواء، غاتسبي الذي بحث عن صورة لذاته في وعي الأمريكي الذي يقدر المظاهر والزيف، وحينما مات غاتسبي، لم يحضر أحد جنازته سوى قلة قليلة، سياقات العمل مشحونة بالنبض الأمريكي الداخلي، ومن هنا جاءت طاقة الكتاب، ووعيه النقدي في تكريس قراءة ثقافية لتحول المجتمع، ضمن أسئلة تستقي قيمتها من كونها تتخلل الجمالي والأدبي، ولكن الأهم الإنساني بعيدا عن المباشرة، هذه الطاقة دفعت أمريكا لأن تكون واعية لقدرة الأدب على أن يكون نصا ناقدا وموجها لها كي تصبح الأمة أفضل.
لا شك في أن رواية «غاتسبي العظيم» من منظور قارئ شرقي لم تبعث بداخلي المتعة، ربما لكونها لم تقع على مكامن إشكالياتي الثقافية، بوصفي أنتمي إلى شعب مشتت، وعالم عربي لا ينتج سوى الموت والدمار، ومع ذلك، فكل عمل أدبي شأنه شأن أي شيء نلتمسه في حياتنا ربما يبعث فينا الطاقة، بغض النظر عن توجهها إيجابيا أم سلبيا، ولكنها تبقى مع ذلك طاقة منطوية على قيمة معيّنة. لاشك في أن قراءة «غاتسبي العظيم» جعلتني أدرك بطريقة أو بأخرى أن مقاربتي للعمل، على الرغم من تأثرها بسياقات نشوئي وثقافتي غير أن هذا لا يقلل من قيمة العمل، وما انطوى عليه من رؤية وطاقة استطعت أن أدركها من خلال التوجيهات والأدوات النقدية الأكاديمية، على الرغم من أن متعة القراءة لم تصل للدرجة التي قرأت فيها ديستويفسكي، وفلوبير، وجوزيه ساماراغو، وماركيز، وكلود سيمون، وجبرا إبراهيم جبرا، فطاقة الكتاب هي ما يحدد كيفية تلقيه في وعي القارئ مع الأخذ بعين الاعتبار سياقات العمل والقارئ على حد سواء، من حيث تولّد المتعة. لا شك في أن رواية «غاتسبي العظيم» كانت حافلة بالطاقة؛ ولهذا كانت هذه الرواية فاعلة في بنية الثقافة الأمريكية، وهذا يقودنا إلى التساؤل عن طاقة المتخيل العربي المحاصر بوعي عربي مأزوم، لا نقدي، وغير مؤمن بالنصيّة وقدرتها على التغيير، فمعظم النتاجات العربية تبدو بلا طاقة، مخنوقة بالكاد تتنفس.
إن مفهوم الطاقة في ما يتعلق بالقراءة والكتابة يتحقق من خلال قدرة العمل على كشف ما حجب من هذا العالم، كما القدرة على اختراق حدود المسكوت عنه، وإثارة الأسئلة في حدودها الأخيرة، وهنا نتحول إلى النموذج الآخر أي التحول، أو التغيير. لاشك في أن قراءة «غاتسبي العظيم» في وعي أي أمريكي ستثير لديه فهما لبعض الأخطاء التي وقعت فيها الثقافة الأمريكية، ولكنها في الآن ذاته سوف تشي بإشارات إلى القائمين على تكريس نسق سياسي واقتصادي واجتماعي لا بد من الاحتكام إلى هذا العمل، كما أن الكثير من السياسات سوف تتغير، فحين يقرأ السياسي أن التمييز العرقي سوف يقود إلى إشكاليات اجتماعية وسياسية وثقافية، لا بد أن ينشأ لديه إحساس بأن هنالك مشكلة ما، في حين أن تحريم تجارة الخمور سوف تنشئ مافيا، وغير ذلك، وهذا ربما ينقلنا إلى محاولة البحث عن تأثير المتخيل الكتابي في وعي الثقافة العربية، وهذا يشمل مفهومنا لحياتنا المشتركة في العالم، ومفهوم التثقيف الأدبي، والقراءة في العالم العربي، فنحن لا نكل ولا نمل من الدعوة إلى القراءة، ولكن أي قراءة؟ وما الطاقة التي تنطوي عليها؟ وما الأعمال التي نكتبها؟ وما مستوى الكتابة العربية التي لم تتمكن إلى الآن من أن تفرض نفسها على خريطة المتخيل العالمي باستثناء بعض الأسماء القليلة جدا من الكُتاب العرب، وللأسف فإن أفضلها قد كتب بلغة أخرى، ولهذا نالت اعترافا وحضورا عالميا، في حين أن الكتابة باللغة العربية تخيلا، ما زالت تفتقد إلى الطاقة لكونها جاءت بلغة لا تجد وعي الترجمة والحرية من قبل أصحابها، وبهذا فإن أغلب كتابتنا وكتبنا ما زالت تفتقد إلى الطاقة.
رواية «غاتسبي العظيم» لفيتزجيرالد ترجمت إلى معظم لغات العالم، كما أنه عمل تحتفي به الأوساط الأكاديمية الأمريكية، حيث يعد الأكثر تداولا في مناهجها، وسائر الدوائر المدرسية أو الأكاديمية العليا، إن دولة كالولايات المتحدة الأمريكية ذات ذاكرة حديثة نسبيا، كما أنها تمتلك من الكتب أقل مما نمتلك بموروثنا الممتد إلى آلاف السنوات، غير إن كتبها تحفل بطاقة لا مثيل لها، في حين أن طاقة كتبنا محصورة أو محاصرة، لا تترجم، لا تدرس، فثمة دوما حدود كثيرة لا تتيح تولّد طاقة جمالية أو إنسانية، لا شك في أن كتابتنا أضحت أقرب إلى نماذج تفتقر إلى الحرارة، إنها تبدو أقرب إلى السطوح، هشّة، كما أنها أقل من أن تدرك الحدث الذي نتقن صناعته، وأعني الحرب التي ننتج فيها أكثر مما ننتج ثقافيا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى