قصتان لأحمد ناجي

 

أحمد ناجي الكاتب المصري الذي حوكم على روايته «استخدام الحياة» التي يتكلم فيها عن سأم الشباب في الألفية الثالثة، الرواية تتناول الجنس والمخدرات. حبس الكاتب بتهمة الإساءة إلى الحياء العام وهو الآن في السجن يمضي محكوميته التي تصل إلى سنتين سجنا مع غرامة عشرة آلاف جنيه. والأديب السجين يتهيأ لنشر مجموعة قصصية بعنوان «لغز المهرجان المشطور» ننشر منها هاتين القصتين.

أضرار التأمل في أعمال كافكا
طَلب‎ ‎مني الكهربائي أن أمر عليه بعد حوالى ربع ساعة لكي يأتي معي ‏لإعَادة تصليح الكهرباء وتوصيلها، لم أجد مفراً من الرضوخ إلى ‏طلبه. ذهبت إلى أول‎ ‎نَاصية الشارع وجلست على مقهى يطل مُبَاشرة على ‏قلب ميدان الجيزة‎.‎
فضلت‎ ‎الجلوس في الخَارج فلم أجد سوى كرسي واحد خال بجوار رجل ‏أصفر الشعر أبيض‎ ‎البشرة. سألته إذا كان هناك أحد يجلس بجواره فهز ‏رأسه نفياً. وضعت الحقيبة‏‎ ‎على الأرضِ وجلست بجواره، بعد لحظات أتى ‏عَامل المقهى يرتدي قميصاً أبيض‎ ‎مَكتوب عليه بخياطة حمراء «مقهى ‏مرعي» وضع كوب شاي أمام الرجل ذي الشعر‎ ‎الأصفر والذى تبينت من ‏وجهه عدداً من البثور ذات اللون البرتقالي ربما‎ ‎تكون من تأثير المشي في ‏الشمس‎.‎
نزلت الشيشة بجوارنا فأخذ مبسمها ووضعه‎ ‎في شفتيه، طلبت من عامل ‏المقهى الثاني واحد شاي سكر زيادة وأخذت أتأمل‎ ‎الرجل الجالس بجواري ‏بحذائه الكوتش الرخيص وبنطاله القماشي ذي اللون‎ ‎الأخضر القميء. وضع ‏القهوجي أمامي كوب الشاي وكوبا آخر يحتوي على مياه‎ ‎تكثفت قطرات ‏من المياه على جدرانها من الخارج. ذهب القهوجي فأخذت أفكر في‎ ‎اسم ‏مرعي وكان أول ما خطر على بالي فوراً اسم مرعي بتاع الكليمه تلك‎ ‎الشخصية الغامضة التي خلقها أحمد آدم أو القرموطي وتقريباً لم يرها أي ‏من‎ ‎المشاهدين. فكرت في شخصيات أخرى غامضة سمعنا عنها ولم نتأكد ‏من وجودها‎ ‎فوجدت القائمة تطول، لكن بشكل لا ارادي وجدتني أفكر في ‏شخصيات كافكا‎ ‎المدفوعة باستمرار من قبل قوى أو أشخاص غامضين ‏نحو تحقيق مصيرها الموسوم‎ ‎بالبؤس والتدمير الذاتي نفسياً وبيولوجياً‎.‎
أشعلت سيجارة وسرحت في‎ ‎الميدان متذكراً تفاصيل أعمال كافكا كأحلام ‏جميلة وبعيدة مستعيداً ذلك‎ ‎الشغف وتلك النشوة القديمة التي كانت تصاحب ‏قراءتها. مأساة حقيقة أن تصل‎ ‎لمرحلة لا تستمتع فيها بقراءة أعمال كافكا، بل ‏فقط تظل مخلصاً لحنين‎ ‎اللحظات القديمة الجميلة التي صاحبت قراءتها‎. ‎
أنها النوستولجيا يا عزيزي مرعى. أيه… ما العمل؟
نعم‎ ‎الأمر صعب، لكنها الحياة من قال أنها زحليقه. مددت قدمي وأخذت نفساً ‏من‎ ‎السيجارة كنت الآن مستكنيس وآخر عظمة وأبهة أحس بالحكمة تسري ‏بين أطرافي‎ ‎فتركت عيني تتابع العجائز والرجال العابرين في الميدان ‏بحركتهم البطيئة‎ ‎المتخبطة في الزحام مثل سلاحف تحاول الهرب. أعني ‏حاول أن تقف في أي جزء في‎ ‎القاهرة وستجد أن البشر يتحولون يوماً بعد ‏يوم إلى سلاحف، جلدهم يزداد‎ ‎سمكاً، حركتهم تصير أبطأ لكنهم يزدادون ‏عددا فيصبحون مثل مجموعة من السلاحف‎ ‎تحاول الفرار من قفص ضيق ‏يحترق فيجرون ببطء فوق بعضهم البعض. حتى النساء‎ ‎أصبحن يشبهن ‏السلاحف البحرية الأكثر انسيابيه، أما الشابات منهن فلديهن فقط‎ ‎جلد ‏كالسلاحف الوليدة أكثر بياضاً ونضاره لكن حركتهن أبطأ مقيدين بالحجاب‎ ‎أو بالأصباغ الملونة. مأساة حقيقة أن تعيش في قفص يمتلئ بالسلاحف‎.
وضع‎ ‎الرجل ذو النمش والبنطال الأخضر القميء مبسم الشيشة على ‏الطاولة الصاج‎ ‎الصغيرة، وقام وانصرف دون أن ينظر خلفه. كان القميص ‏ملتصقاً بظهره بفعل‎ ‎العرق وأردافه من البنطال تتحرك ببطء تماماً مثل ‏السلحفاة‎.
رميت السيجارة وطلبت الحساب فأتى نفس الرجل ذي القميص الأبيض ‏بخياطة كلمة مرعى، نظر إلي وقال‎:‎
‏ـ ثلاثة جنيه‎.‎
أخرجت الفلوس من جيبي لكني أوقفت يدي بعد أن أخرجتها وقلت له‎:‎
‏ـ أنا واحد واحد شاي
رد في تلقائية وهو يشير بيده المبتلة في اتجاه الكرسي المجاور لي ‏والخالي‎:‎
‏ـ طيب والأستاذ اللي كان معاك.
بهلوان الورق المصري
ينتصر على شيطان الرأسمالية
وإذاً قَابلت أليس كوبر في حفلةِ زفَاف عمرو سيزر، كانت الحفلة على سطوح إحدى عمارات وسط البلد في شَارعِ عمَاد الدين. لم أتعرف عليه في البداية لكن لفت نظري ملابسه ومكياج وجهه، سألت عمرو «مين الوحش؟!» فخبط جبهته بيده وقد نسى اسمه كالعادة، ثم ذهب إلى عروسةِ وسألها «مين دا؟!» لكنها اكتفت بالضحك وقالت «دا صاحبك أنت يا حبيبي»
إذاً ذهبت للرجل وصافحته، عرفته بنفسي، فقال بصوت مبحوح «كوبر.. أليس كوبر» اندهشت لوجوده هنا، لكن لم أظهر أي علامة من علامات الاستغراب، أعطيته علبة بيرة صفيح ففتحها بأظافره الطويلة ثم تجرعها كَاملة على مرتين.
كانت الموسيقى جيدة، لكني بسهولة أمكنني الشعور أن كوبر لم يكن مستريحاً لهذا النوع من الموسيقى الهَادئة ذات الطَابع الرومانسي والمغزى الأخلاقي السامي؛ عموماً لم أكن مجنوناً يوماً بموسيقى كوبر، أعنى أنا أقدر الرجل حقاً وأعرف قيمته، وتأثيره الكبير على عشرات الموسيقيين خصوصاً في مجال الميتال والهيفي ميتال وما تفرع عنهما، وملايين البشر من جمهوره، لكنى لم أكن واحداً منهم للأسف وهذا بالطبع لا يعنى بالضرورة أني أكن أي موقف عدائي، أو سلبي تجاه الرجل. فعلى العكس ثَرثرت معه في اللا شيء تقريباً لمدة نصف ساعة بعدها كان لابد أن استأذن في الانصرافِ حتى ألحق موعداً آخر، صَافحته وأخبرته أني سأغادر، فقال أن هذا جيد جداً لأنه أيضاً يريد أن يغَادر.
إذاً غادرناً معاً، وبينما نحن على السلم عرض عليّ الذهاب معه إلى مسكنه، وشد سطرين، سألته أين يسكن لأفاجأ أنه يسكن في الطابق الثاني من نفس البناية. كان مسكنه عبارة عن حجرة بحمام فوق سطوح أحد المباني القصيرة لكن الدخول إليها يتم من نفس بناية عمرو.
هكذا إذاً أخذت سطرين من الكوكايين الذى وصفه بأنه نوع رديء، مثل كل شيء في مصر، لهذا سألته ما الذي يجعله يقيم في القاهرة إذا كان كل شيء سيئاً، فقال أنه يباشر استثماراته وأعماله في القاهرة، سألني إذا كنت أعرف محل متعهد الجنازات المسيحي الموجود في ميدان رمسيس بجوار جامع الفتح، فجاوبته بالنفي، ليخبرني عند هذه النقطة أنه صاحب أكبر سلسلة من محلات بيع التوابيت ومتعهدي الجنازات المسيحية، لديه غابات كاملة في أمريكا اللاتينية يستخدم أخشابها في صنع توابيت خشبية لكل الطبقات وكل المستويات في مصر ذات السبع طبقات وأستك.
إذ لاحظ كوبر زيادة أعداد المواليد المسيحيين في مصر وهو ما يعني فرصة مستقبلية للتوسع، لذلك يهدف من خلال زيارته الحالية للقاهرة إلى السيطرة على سوق الجنازات المسيحية ليضمن احتكار السوق له فقط في المستقبل، من خلال القضاء على كل المحلات الصغيرة خصوصاً في شبرا والمنيا.
]]] بعد عدة أيام صادفت سعيد أبو بكر في مقهى الندوة الثقافية بميدان باب اللوق، المقهى من مقاهي سعيد المفضلة، ربما لأنه يقدم معسل التنباك الذى أخذ سعيد يشربه بجواري وأنا أتابع ذات الرداء الأحمر في الصيدلية المقابلة للمقهى. تحدثنا قليلاً ولفت نظري موبيل جديد يحمله، أخذت ألعب فيه منبهراً، كان الجهاز أكثر من موبيل بل تقريبا جهاز كمبيوتر بحجم كفة اليد، وبسخرية سألته «من أين لك هذا يا بطة؟!» من ملامح وجهه بدا أنه محشش تحشيشة عظيمة، لكنه هز رأسه والمبسم في فمه، ثم التفت نحوي قائلاً «وحياتك بلاش تفكرني، دا أنا امبارح كان واحد من أجمد أيام حياتي.. ثروة وحياتك يا اخوي هبطت عليا من السما».
نقلت بصري إلى فتاة ممتلئة دخلت المقهى، وجلست عن يميني. ثم عدت بعيني له وسألته «ازاي يعنى؟» فجاوب قائلاً «واحد خواجة قابلته امبارح في صالة مدام دولت، لعبنا بولة، والثانية والثالثة، الرجل كل ما يخسر، يسخن، ويرفع، يسخن ويرفع، ومحسوبك حظه كان فوق.. فوق.. فوق النجوم. قشطته تماما، وآخر حاجة لعبنا عليها الموبيل دا، والنهاردا هنكمل الليلة»
توقف للحظة وأخذ يدور بعينيه في المقهى محدثاً نفسه «انا عايز حجر تاني» ثم أكمل قائلاً «آخر القعدة امبارح، اقسم انه بكرة مستعد يلاعبني على روحه مقابل روحي، يعنى الليلة دي، الخسران لازم يروح عريان».
حولت نظري من الفتاة الممتلئة التي بدأت في تدخين سيجارة كليوباترا سوبر إلى ذات الرداء الأحمر التي كانت تلعب في شعرها، ورددت عليه «طيب وافرض خسرت يا بطة». نفث الدخان إلى أعلى وقال كأنه يتحدث مع الله «يا سيدي ما ياما خسرنا».
]]] غاب سعيد أبو بكر لفترة، حاولت الاتصال به أكثر من مرة لكن تليفونه كان مغلقاً. سألت عنه سراج منير، فقال أنه غَالباً سَافر للرَاحة والاستجمام في أحد المنتجعات الصحية في التشيك أو السويد. نعم كان هذا غريباً لأني لم أعرف سعيد غنياً إلى هذا الحد.
في هذه الفترة، اشتد المرض على زوزو وزرتها مع استفان. بعدما بذلت أنا ونور الدين مجهوداً كبيراً في اقناعه، نصب توفيق على نجاح الموجي في تربة حشيش بألف جنيه وتدخلت لتخليص الموضوع، ومررت في مغامرة لطيفة قد أقصها عليكم يوماً ما، وشعرت بانجذاب اتجاه فتاة مصرية تتمنى أن تكون يابانية، لكنها للأسف كانت مرتبطة بجاك دانيل، نقلت محل إقامتي، شربت افيون لأول مرة في حياتي مع ميمي، ثم ظهر اسم سعيد أبو بكر على موبيلي، فتحت الخط وأنا أهتف «يا ابن الكلب… أنت فين يا جدع أنت؟»
سمعت ضحكته على الطرف الآخر، وكنت جالساً في أحد المقاهي المقابلة للجامعة الأمريكية، وبعد خمس دقائق مر على وهو يقود سيارة كاديلاك مكشوفة ذات موديل قديم ولون أخضر، مبهرة كانت. ما أن جلست بجواره وبعد السلامات والتحيات والإخباريات سألته من أين لك هذا فلوى بوزه وقال لي «اصبر معايا للآخر»
إذا اتجهنا إلى شارع رمسيس، وقبل جامع الفتح ركنا السيارة، ونزلنا لندخل محل متعهد جنازات مسيحي، كان محلاً ضيقاً يمتلأ بالتوابيت الخشبية من كل الأنواع والمقاسات.
سلم سعيد على الولد الجالس في المحل الذي قام من على المكتب، واستأذن في الانصراف، وانزل باب المحل خلفه، ليمد سعيد يده إلى علبة سجائره، ويخرج جيونت حشيش معتبر، كنت مذهولاً تماماً من الجو بأكمله ومن ملابس سعيد وبدلته الفخمة التي منحته مظهراً مختلفاً، ومندهشاً خاطبته «من أين لك كل هذا يا ابن الكلب؟!»
تناول من على المكتب علبة ذهبية مطعمة بحجارة قدرت أنها ماس، ثم فتح العلبة واخرج مجموعة من أوراق الكوتشينه، وبحركة سحرية فردها أمام وجهي؛ وابتسم وحواجبه مرفوعة لأعلى.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى