باقةُ ورد…للكاتبة شيماء غفار

خاص (الجسرة)

 

الجميعُ هناكَ في الأفقِ كما يبدو يرجونَ يوما جديدا، يتأملونَ من خلالهِ اشراقةً بهية للحياةِ تخبرهم بأنهم ليسوا نياما بعدَ اليوم، وحدها فقط كانت تنزوي في أقصى ركنٍ من المشهد، تختبئ عن ضوء الشمس خلف ستارةٍ داكنة تماما من اللاشيء، تنتظر أن تعود الى صندوقها الأسود الخالي سوى من باقةِ وردٍ ذابلة، يغطي الدمُ الأحمرُ جلَ أوراق ورودها وأحلامها الغريبة التي لن تزيدَها شيئا ولن تُنقص منها.
تُغمضُ عينيها اللوزتين في هدوء، تحاولُ أن لا تتذكر شيئا من الماضي، أن تختفي في عوالمَ أخرى، تلك المحاولة التي تفشلُ دائما لكنها تكررها على أملِ أن تنجح ولو لمرة، يرتفعُ قفصها الصدري في حركةٍ مضاعفة، وتحسُ أن كل الحويصلاتِ الهوائية تنفذ الى رئتها لكن دونَ أن تسمح للدمِ بتسريب ما التقطتهُ خارجا من الحياة، ينبضُ قلبها خمس وسبعون نبضة في الدقيقة دون أن تجدي احداها في ضخ الطمأنينة إلى جسدها المنهك، تُحاولُ أن تفكر في أي شيء يسمحُ لها بالمغادرة الى النومِ بعد مضي الليل الطويل جدا، لكنها بالفعل لم تعد تتذكر معنى الحياة في الخارج أبدا؟ لم تعد تذكرُ اللونَ الأقحوانيَ لزهرة السوسن، ولا رائحةَ الأرضِ المبلولةِ بالمطر، ولا صوتَ قطراتِ المطر وهي تكسرُ سكونَ الحبِ بينهما، بينها ويوسف، ذلك الشخصُ المفترقُ الذي تعلمت لأجله كيف يمكن للطفلة أن تستوي على نارِ الأنوثةِ لتكونَ امرأةً شعلة لا تنطفئ إلا لأجلِ رجل أحبتهُ بصدق،ولأجله فقط انطفأت هي واختارتْ اللاشيء.
يوسف كان بالنسبة لها رفيق دربِ الطفولة، بداية تفتح الزهرة ورحيقها، المعجونِ بمآثر الدنيا، المتنزه عن خطاياها، حملتهُ في قلبها كالرجلِ الأوحدِ والقدر الأوحدِ والنجمِ المقدس، حملَ هو وطنهُ على عاتقهِ لتعيش هي ممددةٍ على أطرافِ الحرية أو هذا ماكان يرجوهُ حقا.
أنْ يُعجن الرجلُ بطينِ وطنه، وينصهرَ في قضاياهْ، أن يُصبحَ الدمُ واحدا والنبضُ واحدا، كان بالنسبة لها كلُ ذلك أمرا واقعا لابدَ أن تتعايش معه وبالرغم من أنها كانت حمامةَ سلامٍ في ظلِ الدمار الشامل المحيط بها منذ ولادتها، لكنها لم ترده بعيدا عن مبادئه بل أرادته متخما بها، ماكانتْ تنتظرُ أن تُبكيها الدنيا فيه، ولا أن يستكثر القدر حبهما، عاشتْ به، تنفستْ من خلاله، وكانتْ لهُ جلَ ما أراد من الحياة، ارتقى بها درجةً في سلم إنسانيته أحسَ بأنه أمامها انسانٌ طاهرٌ كما خلق أول مرةٍ قبل التفاحةِ المحرمة.
انتظرتْ ذلكَ اليومَ بفارغ الصبر، اليومُ الذي سيأتِي فيهِ أمامَ العالم أجمع، أمامَ الشرائع ليجمعها رباطُ الزواجِ المقدس، كما جمعتهما قداسة الحب قبلا، ارتجت أن يأتي لها حاملا الورود التي لطالما انغلقتْ بأسرارهما ولن تنفتح الا مرة واحدة في عمرها.
جلستْ أمام المرآةِ لساعاتٍ طويلة، وعندما انعكست صورتها الأخيرة أدركتْ بأنها أصبحتْ جميلة جدا، كانت تحسُ في داخلها بأنها لن تكون جميلة كمثل هذا اليوم مرة أخرى، ارتفعتْ دقاتُ قلبها، أصبحتْ تُسمع على بعدِ خطواتْ، كانت تفكر بكلِ الأيامِ الجميلة الآتية، وسطَ كل ذلكَ لم تنتبهْ لصوتِ الرصاص المنطلق من الحي، أو ربما انتبهتْ لكن الأمر بالنسبة لها لم يكنْ سوى شيء اعتادتْ عليه منذ مدة طويلة وأصبح مع مرور الوقت روتينا يوميا، بقيتْ في غرفتها أسيرة المرآةِ وحيدةً من كل شيء، كلهم أحسوا بشيء غريبٍ ما عداها هي التي كان قلبها دليلها في كل حياتها، كيف خانها في ذلك اليوم بالذات؟
لم تُفق إلا على صوتِ والدتها وهي تناديها، وقتها فقطْ سمعتْ صوتَ البكاء القريب جدا دون الأهازيج التي كانت تعلوا على مسامعها قبل لحظات، أحستْ بعضلة قلبها تنكمش، انطلقتْ بسرعة حاملةً ساعاتٍ من الأحلامْ، أياما من الوعود، وسنين طويلة جدا من الحب، كان الجمعُ يحيط بشهيدٍ ما، وحدها عينها اللوزية التي التقطت صورة باقة الورد المتفردة وسط بركة من الدماء عرفت يومها الطريق الذي لن يمنى بالعودة،الطريق إلى اللاشيء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى