الخطان العربي والياباني في لوحات كارلا سالم

مهى سلطان

تستهل كارلا سالم معرضها «حوار بصوت واحد»، الذي يقام في غاليري أجيال، بتفسير تجليات مظاهر كونية الحرف العربي وامتداده في اللغة اليابانية بالقول: «بحثت ولم أجد امتداداً سوى الألف والنون». وهي التي تعرفت إلى مبادئ الكتابة باللغة العربية في محترف سمير الصايغ في بيروت وتابعت طوال 7 سنوات دراستها لجماليات الكتابة باللغة اليابانية، بعد أن أسرها شغف الإلمام بأسرار خامات التركيب التقني للورق الياباني الذي يصنع من شجرة التوت – الكوزو (باليابانية).
ذهبت كارلا سالم بعيداً في تحليل سيمياء الكتابة باللغتين العربية واليابانية من خلال تأمل تنوع نظم الشكل الجمالي الواحد الذي يعكس اختلافات دلالات القدرة العجائبية للفظة المفردة في هذا السديم اللغوي. فالخط العربي وكذلك الياباني تجمعهما فلسفة نظام كوني لبنية مظاهر الوجود، هو في الأصل نظام الطيران، ودوران الكواكب ونمو الأوراق. إذ يقوم الخط العربي وكذلك الياباني بأبسط شروطه على التوازن بين الأفقي والعمودي وهو بين انحناء واستقامة وانبساط وانقباض ولين وقسوة وبين ليل ونهار. وهذا ما شجع كارلا على إقامة حوار مع همسات الأوراق التي تصنعها كي تتلمس أبعاد الحلم المفتوح على أطياف الشعر الكامن في فضاء الورقة نفسها بأليافها وعروقها وأنسجتها لكأنها تختصر الطبيعة أو تكاد تكون صورة عنها وما يمكن أن تحمله كمُسند تصويري على وجهها من عبارات ودلالات، عبر كلمات مسطورة بأنواع من الأقلام والأحبار. ولطالما كانت العلاقة بين الفارغ والملآن سائدة في خيال تدوين الكتابة وترميزها الأسطوري للحياة.
لعل تجارب كارلا سالم فريدة من نوعها في مقاربتها لدلالات التكافؤ التجريدي-السيميولوجي، لأشكال منسوبة من مقاطع حروفية، مدمجة ومختارة من الحوار بين لغتين شرقيتين (الشرق العربي والشرق الأقصى). أشكال لحروف يابانية وعربية على متن واحد، مثل قصائد الهايكو تجمعهما ذاكرة استعارة لمشتقات النغمات التجريدية ومحاورها حيث الارتفاع والدوران، الرقة والانسياب، الليونة والمرونة، بحيث إن هذه الكتابة تقع تلقائياً في المؤدى البصري بجمالياتها وانسيابها واختصاراتها وتقشفها الأقليّ. فالدمج بين المعنى القطوف من لغتين، من شأنه أن يفتح الأفق أمام مخاطبة جديدة لأطوار تجويد الكتابة الشرقية ويكشف بالتالي عن المظاهر التجريدية الملغزة التي ترسم الأفكار وتيسّر تداولها كحركة جسدية وكنقش لعلامة غرافيكية.
هكذا تستعيد كارلا سالم نظرية النسبة الفاضلة لابن مقلة (علاقة الألف والنون بهندسة نظم الخط العربي) وتكشف عن مدى مقاربة جماليات تلك النسبة الفاضلة للقيم التعبيرية السائدة في الخط الياباني حيث تجسد إشارات الحروف الأفقية دلالات السكون والهدوء، بينما ترمز الإشارات الرأسية إلى القوة والشموخ والارتقاء، وارتباطها بمعاني النمو والشعور بالحياة، لذا فهي أكثر حيوية من الأفقية. إذ إن تكرارها مع اختلاف أطوالها يعطي الإحساس بالقوة والصلابة. فالفلسفة التأملية التي قام عليها الخط الياباني تبدو في معالمها الجمالية قريبة من سمات النظم البصرية الكامنة في حركات الحروف العربية، عبر دلالات الخطوط الأفقية والرأسية والمقوسة والمائلة والسميكة والرقيقة في اعتمادها على تعبيرات التوازن والليونة والطواعية والرشاقة والمرونة والانسيابية والدمج.
في اليابان تقول كارلا سالم «بدأت أكتب أفكاري بلغتي الأم، بعدما أمضيت سنوات عديدة من حياتي وأنا أقرأ وأكتب وأحلل بلغات أجنبية، ولكني لم أستطع أن أترجم بها أفكاري وأحاسيسي. وهنا بدأ الحوار بين لغتين ينبثق على ورق من صنع يدي. الآن لأول مرة أريد أن أكتب بلغتي الأم التي ما زلت أتعلمها».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى