“الحكم” لكافكا: استباحة الذات الإنسانيّة

د. يوسف حمدان
خاص (الجسرة)
تشغل السلطة بمعناها الواسع جزءا هامّا من التفكير الإنسانيّ، في محاولات للبحث عن آليّات التحرر منها والكشف عن آثارها في الهوية الإنسانيّة، لا سيّما بعد التطوّرات العلميّة والفلسفيّة في العصور الحديثة، حيث يحاول الإنسان إدراك معالم نقصه والضغوط والمحددات الموجّهة لتكوينه، على المستوى النفسيّ والسلوكيّ. وعلى الرغم من المنجزات الهائلة في الكشف عن صور رضوخ الإنسان إثر العوامل التاريخيّة والدينيّة والسياسيّة…، ما تزال الحريّة والإرادة مبحثا جدليّا وعرا في كثير من مساحاته وقضاياه نظريّا وعمليّا.وإذا كان تحقيق الوجود الإنسانيّ بصورة متكاملة مطلبا عسيرا، فإنّ دوام محاولة الكشف عن معيقات هذا التحقيق وسيلة لإثبات جزء منه.
وممارسةُ السلطة عملَها في الفعل الإنسانيّ عميقُ الغور إلى الحدّ الذي قد تكون فيه فكرة الانتصار عليها مزيدا من التورّط فيها، فيغدو الخلاص شكليّا ومشوبا بكثير من دلالات الأزمة تجاهها والاستلاب لها. تصلح هنا قصّة كافكا “الحكم” نموذجا لتوضيح هذه الفكرة، حيث تسلّط الضوء على العلاقةالمعقّدة بين”جيورج” وأبيه، الذي تراجع حضوره وضعفت قوّته، إلا أنّ سلوك جيورج يعكس حضوره القسري وخضوعه غير الإراديّ له.
جيورج بعد أن يكتب رسالة إلى صديقه في بطرسبورغيقدّم فيها شيئا من سيرته خاصّة ما يتعلّقبالنجاحات التي حقّقها في محلّه التجاريّ في السنوات الأخيرة يخبر أباه بأمر الرسالة ويتلطّف في مخاطبة أبيه مشيرا إلى ما تجب مراعاته حفاظا على صحّته ونفسيّته. غير أنّ الأمر يتحوّل سريعا إلى مشادّة كلاميّة تكشف أنّ ما قاله جيورج في الرسالة ليس كلاما بريئا، وأنّه يعمل على تنحية أبيه عن المشهد. ويقدّم الأب إدانة للابن أثناء حوارهما قائلا: “لقد كنت في الحقيقة طفلا بريئا، ولكنّ الأكثر حقيقة هو أنّك كنت إنسانا شيطانيّا!”
جيورج يريد، من خلال كتابته الرسالة، أن يكون هو الكاتب والمخبر، فيجد نفسه تحت رقابة أبيه، ولا يخفى أنّ الإشارة إلى النجاح الذي تحقق في العمل حدث مؤخّرا، أي حين تراجع دور الأب في العمل والحضور. يُصدمجيورج بقول أبيه أنّه أرسل لذلك الصديق الرسائل والأخبار الحقّة، وأنّه يعلم كلّ شيء، “لقد كتبت له لأنّك نسيت أن تنتزع منّي أدوات الكتابة. ولهذا السبب فإنّه لا يأتي منذ سنوات. إنّه ليعرف كلّ شيء أفضل منك نفسك بمائة مرّة. رسائلك يجعّدها في يده اليسرى قبل أن يقرأها، في حين يرفع رسائلي في يده اليمنى ويقرؤها!”
اللغة هنا هي محور النزاع، وهي ذات معنى مناقضلظاهرها، فمحاولة جيورج مخاطبة أبيه بقدر من الرقّة عمل على ممارسة دور الأب على أبيه، ومخاطبته باعتباره طفلا يحتاج إلى الرعاية والمتابعة؛ أي يحاول أن يظهر على أنّه هو الأب. وفي الجزء الذي يظهر من الرسالة يذكر جيورج لصديقه: “أمّا أطيب خبر فقد احتفظت به إلى الختام. لقد عقدت خطوبتي على الآنسة فريدا براندنفلد التي هي من أسرة موسرة استوطنت هنا بعد رحيلك بفترة طويلة، أي أنّه من المستبعد أن تعرفها. وستوجد فرصة لإعلامك تفاصيل عن خطيبتي، أمّا اليوم، فيكفيك أنني سعيد…” سعادة جيورج هذه ليست ناتجة عن مجرّد الارتباط بفتاة،وإنماعن الاستقلال عن أبيه وتشكيل هويّته أبا. وشخصيّة الصديقتبدو أكثر التباسا حين نأخذ بعين الاعتبار ما قاله الأبّ لجيورج: “ليس لديك صديق في بطرسبوج. لقد كنت دائما مهرّجا، ولم تتحفظ أمامي أيضا.”هذه الجملة لا تعني بالضرورة عدم وجود الصديق بشكل كليّ في بطرسبوج، وإنما قد تعني نفي نسبة الصديق إلى جيورج الذي يظهر في قوله “لديك”؛ أي أنّ الصديق هو صديق الأب لا الابن، ذلك أنّ الأب قال إنّه كتب الرسائل له من قبل. وهنا تبرز قيمة الصديق في أنّه رمز لطرف خارج إطار الأسرة يمثّل متلقيالما يُنتج من خطاب في الأسرة، سواء أكان من الأب أو الابن.
يكشف الحوار بين الأب وجيورج مدى استخدام الأخير للغة أبيه، في الوقت الذي يظنّ فيه أنّه انتصر على سلطته، فيجد أنّه يحاول أن يستنسخ من نفسه صورة عن أبيه، وأنّه مستلب للغته التي هي وسيلة انتصاره عليه وانقياده له في الآن ذاته، فيكون مرجعُه في كلّ الأحوال إلى الأب، سواء أكان منتصرا أم خاسرا. وهذا الانقياد والخضوع للغة الأب يقود جيورج إلى النهاية المدمّرة، تنفيذا لحكم أبيه: “إنني أحكم عليك الآن بالموت غرقا!” فيذهب جيورج منصاعا لهذا الحكم إلى الجسر فوق الماء تاركا “نفسه يسقطإلى أسفل.”هذه النهاية الرمزيّة تكثّف الأضواء على أنّ جيورج مستلب لأبيه إلى حدّ هائل لا يمكنه أن يعيه، وأنّ ذلك يوجّهه ويتحكّم في خياراته إلى أبعد مدى ممكن.
يقول كافكا “إنّ الأسرة المحددة بالسلطة الأبويّة لا تتسع إلا لكائنات محدّدة، كائنات منصاعة لمطالب محدّدة، فإن لم تستجب هذه الكائنات لهذه المطالب كان مصيرها اللعنة أو الالتهام، أو الشيئين كليهما…” إدراك حجم تلك السلطة الواقعة على الإنسان حتى على مستوى لغته يقود إلى إحباط لا يمكن الخلاص منه إلا بالصمت المطلق، ذلك الصمت الذي حققه جيورج في سقوطه الأبديّ من فوق الجسر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى