«كافيه سوسايتي»: السينما بدءاً من الفضائح «البريئة»

ابراهيم العريس

حتى اللحظات الأخيرة قبل البدء في عرض الفيلم السادس والأربعين لوودي آلن في الاحتفال الافتتاحي للدورة التاسعة والستين لمهرجان «كان» السينمائي، لم يكن أحد يعرف أشياء كثيرة عن الفيلم. وحده الإسم «كافيه سوسايتي»، وبضعة أسطر من هنا وبضعة أسماء من هناك، كانت معـــروفة. كما كان معروفاً أن هذا الفيلم الذي اشتـــرته شركة آمازون العملاقة بـ15 مليون دولار من آلن، منهيةً بهذا حقبة حقق فيها هذا الأخير ستة أفلام لحساب شركة «سوني»، صُوّر بين لوس انجليس ونيويورك، وأن مخرجه وفريقه اضطرا إلى إعادة تصوير بعض المشاهد، لمجرد أن بروس ويليس الذي كان صوّر بعض دوره كوكيل أعمال في هوليوود، اضطر إلى مبارحة الفيلم، فاستبدل بستيف كارل، ما استدعى إعادة التصوير.
اليوم، بعد الإفتتاح صار كثر يعرفون أكثر كثيراً حول الفيلم، ورأى نقاد كثر أنه يمثل عودة ناجحة لوودي آلن بعد ردود الفعل السلبية، عامة، التي واجهت فيلمه للعام الماضي «رجل لاعقلاني». والحال أننا تعمدنا في العبارة السابقة أن نصف ذلك الفيلم بأنه «فيلم العام الماضي»، وذلك تحديداً لأن وودي آلن لا يزال يضرب رقماً قياسياً من الواضح أن أياً من مبدعي تاريخ الفن السابع، لم يسبقه إليه: فهو منذ قرابة نصف قرن يواظب في انتظام عجيب، على تحقيق فيلم في كل عام. وفي الحديث عن الأرقام القياسية لا بد أن نذكر أن عرض فيلم لوودي آلن في افتتاح دورة هذا العام لـ «كان» يجعله متفرداً بكونه قدم افتتاحاً «كانيّاً» للمرة الثالثة، بل حتى للمرة الرابعة إن احتسبنا تقديم «حكايات نيويورك» في الافتتاح في «كان» ذات عام، حيث أن آلن شارك، إلى جانب كوبولا وسكورسيزي، بإخراج واحدة من حكايات هذا الفيلم الثلاث. ثلاثة افتتاحات وأكثر… أمر لم يضاهه فيه أحد. هناك عدد من المخرجين قدموا افتتاحين (ويليام وايلر، ردلي سكوت، لوك بيسون وباز لارمان)، لكن أحداً لم يصل إلى الرقم الذي وصل إليه آلن. بل ربما يكون في إمكاننا أيضاً أن نضيف أن هذا المخرج، الذي لا يزال يملأ الشاشات والصالات منذ العام 1966، شارك أربعة عشر مرة في مهرجان «كان»، منذ «مانهاتن» وحتى «كافيه سوسايتي»… وهو كذلك رقم ربما لم يصل إليه مخرج واحد. لكن الطريف أن الفيلم الذي قيل عنه إنه الأضعف في مسار آلن خلال السنوات الأخيرة، «رجل لا عقلاني» (2015)، كان بأكثر من ستة ملايين دولار، أنجح فيلم عُرض لوودي آلن في فرنسا. حتى فيلما الافتتاح «الكانيّ» السابقان: «نهاية هوليوودية» (2002) و»منتصف الليل في باريس» (2011) لم يحققا هذا النجاح التجاري. مهما يكن، من المعروف أن الجمهور (والنقد) الفرنسي يحب وودي آلن من دون قيد أو شرط، وهو على أية حال عبّر عن هذا الحب، في فيلم «نهاية هوليوودية»، وحتى بشيء من السخرية. لكنها كانت سخرية غفرها له الفرنسيون بسرعة. وخير دليل على هذا الغفران، الاستقبال الذي خصّ به، وهو في الثمانين من عمره، في حفل افتتاح هذه الدورة البادئة لتوها من مهرجان «كان».

هوليوود الزمن الجميل
كما حال «نهاية هوليوودية»، بل كما حال العديد من أفلام وودي آلن، سواء عرضت في مهرجان «كان» أو لم تعــــرض، يدور موضوع «كافيه سوسايتي» حول السينما وحياتها الداخلية. ويقول وودي آلن إنه من أجل تحقيق هذا الفيلم الذي ما كان يمكنه ان يصوّر إلا في لوس انــجلــــيس (مع تصوير مشاهد في نيويورك)، أجبر نفسه علــــى التخلي عن «كراهيته» التاريخية، بل الأسطورية، لعاصـــــمة السينما الأميركية… بل، على العكس، ها هو يجد ما يحبّبه بها… وهو أمر واضح تماماً في الفيلم. ولكـــن عن أية لوس انجليس نتحدث هنا؟ نخشى أن نقول، ليـــس عن المدينة كما هي اليوم، بل عنها كما كانت في سنـــوات الثلاثين من القرن العشرين، يوم كانت لا تزال لها وللسينمـــا براءتهما. يوم كانت العلاقات لا تزال بين البشر، لا بيــــن الآلات وعمالقة التوزيع. ويوم كانت كتابة السيناريو عمـــلاً إبداعياً، مهما كان رأينا في الفيلم، لا عملاً متسلسلاً كحال تلحين الأغنيات العربية في أيامنا هذه.
في تلك الايام، يوم كانت هوليوود مقصد الهواة والساعين إلى الشهرة والمجد، ويوم كانت لوس انجليس لا تزال مدينة الأدب والفن والابداع، كان ثمة مقهى تدور كل تلك الحياة من حوله. وهذا المقهى هو «كافيه سوسايتي» الذي، كما حال مقهى «الفلور» أو «لي دي ماغو» الباريسيين منطلقاً لنشاطات فنية واجتماعية؛ ونجده مذكوراً في مذكرات وكتب كثر من أساطين الادب والفن في عاصمة الغرب الأميركي. والحقيقة أن وودي آلن لم يكن الوحيد الذي جعل من هذا المقهى الأسطوري، نقطة الجذب في فيلمه الجديد، فهناك أفلام عديدة، وحتى مسلسلات تلفزيونية، دارت فيه أو من حوله. أما هذه المرة، فإن من يدور من حول المقهى شاب في أول صعوده يقصد هوليوود، ليجد لنفسه مكاناً فيها. وودي آلن، ركّب من حول حكاية هذا الشاب المهنية والغرامية، عالماً بأكمله من حب السينما وانتقادها بحنان، لعله يستكمل به، تلك المشاهد الباريسية التي جعلها أساس فيلمه «منتصف الليل في باريس»، حيث يجد البطل نفسه في الليالي الباريسية يغيب في مغامرة عابرة للزمن تقوده إلى باريس الثلاثينات حين كان أمثال سكوت فيتزجيرالد وارنست همنغواي وجرترود شتاين، من نزلاء باريس الدائمين. في «كافيه سوسايتي»، وبالنسبة إلى زمن مقارب، يأخذنا وودي آلن إذاً، إلى المقلب الآخر، إلى المقلب الأميركي بعيداً من أي مكان آخر، قريباً من السينما.

في زوايا الصحافة الصفراء
الطريف أن وودي آلن، حين سئل عن فيلمه قبل أسابيع من عرض الفيلم في «كان» – علماً أن عروضه العالمية لن تبدأ قبل أواسط تموز (يوليو) المقبل – قال إن الرغبة في تحقيق هذا الفيلم إنما نبعت لديه من رغبته في تصوير فيلم عن حياة عائلة! ثم تطورت الفكرة إذ جلس ذات يوم يتذكر هوليوود القديمة وعوالمها وأفلامها… ثم فجأة أحس أنه يريد أن يكتب رواية عن هذه الحياة العائلية… ويبدو أن الانتقال من فكرة الفيلم إلى فكرة الرواية كانت سهلة. ولسنا ندري ما إذا كان من السهل على مشاهد «كافيه سوسايتي» أن يدرك هذا الانتقال، أو الوجود الروائي الأدبي في الفيلم. لكنه – أي المشاهد – قادر على الأقل أن يحس في المقابل صدق وودي آلن حين يقول إن العناصر الأساس لموضوعه ولحكاية فيلمه، إنما استقاها من تلك الاخبار الاجتماعية والفضائحية الصغيرة التي كانت معتمدة، كجزء من حياة السينما وحياة لوس أنجليس، في ذلك الحين. «في مثل تلك الصفحات والأعمدة يمكن المرء أن يعثر حقاً على كل الاخبار والهمسات التي تجعله يشعر أنه فعلاً يعيش في هوليوود – ونيويورك – الثلاثينات، وهو شعور مثير بالتأكيد «يقول وودي آلن وهو يرقب اليوم بفرح حب الفرنسيين له، ولا يجيب حين يُسأل: إذا كان الأمر كذلك لماذا تصرّ دائماً على أن تعرض أفلامك خارج المسابقة الرسمية؟

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى