عمرو عاشور: الكتابة فعل مبهم … وأنا ابن حكايات أمي وأبي

أحمد مجدي همام

على ظهر غلاف الرواية الأولى للمصري عمرو عاشور، وعنوانها «دار الغواية»، كتب الروائي إبراهيم عبدالمجيد تقديماً يعلن فيه «مولد كاتب واعد»، بينما حصلت روايته الثانية «كيس أسود ثقيل» على جائزة ساويرس للروائيين الشبّان، أما روايته «رب الحكايات» الصادرة عن دار «ميريت» للنشر، فحظيت باستقبال نقدي جيد، وفيها يحاول عاشور أن يتتبع – في شكل فني – مسار دين خيالي منذ لحظة نشوئه وحتى تراكم شعائره وأتباعه.
> تتناول نشوء الأديان في رواية «رب الحكايات» في شكل فانتازي، ألم تخش من التورط في التماهي مع الروايات السماوية عن الأديان مثلما حدث مع نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا»؟
– رواية «رب الحكايات» لم تتماه مع أي من المعتقدات الأرضية ولا السماوية، وإنما منبعها الحقيقي حكاية، مجرد حكاية تلوكها أمي دوماً ولا تعرف غيرها ولا حتى مصدرها، تلك الحكاية البسيطة العجيبة التي أسرتني (جلال وزهرة الجبل) كانت هي نشأة العالم الروائي الخاص بها، وكان لا بد لهذا العالم أن يتمدد وهو ما سيجرنا إلى الموهبة والصنعة في ما بعد. عندما انتهت الحكاية الأم (جلال وزهرة الجبل) كان السؤال: كيف يسير هذا العالم وإلى أين؟ ما مدى تأثير تلك الحكاية على ما بعدها؟ الحكاية نفسها بذرة صالحة للإثمار، فكيف أستفيد منها؟ ولأن الكاتب هو وجهة نظر في الأساس يغلفها ويقدمها بطريقته جاءت الحكاية الثانية «الإنسان البدائي». ما دام بدأنا بالجنة والدنيا، فما الضرر في أن نستمر على جنوننا حتى النهاية، ثم كان لا بد أن يكون هناك جسر بين الحكاية الأم والعالم المقبل وليس هناك أفضل من إرسال نبي، فلتجعله حلَّاقاً بائساً ساقطاً في مأساة حياتية. أما الحكاية الأخيرة فنتوقف عندها قليلاً. كنت قد قلت لك إن الحكاية الأولى مصدرها أمي وهي حكايتها اليتيمة، وقلت أيضا من قبل – في حوارات أخرى – إن أبي حكَّاء مدهش – ولولا تسربه من التعليم لأصبح روائياً برصيد هائل من الكتب، والحكاية الرابعة (حكايات وطقوس) ضمن حكايات أبي، فكما ترى الموضوع في غاية الذاتية، حكاية من الأم على حكاية من الأب وهناك حكايتان لابنهما فنشأ عالم متكامل. تلك هي اللعبة ببساطة: أنت ونفسك، أنت وعالمك، أنت وخيالك.
> في «رب الحكايات»، أربع قصص تلخص نشأة الدين… هل تتسع الرواية لطرح أسئلة وجودية وفلسفية وغزلها في شكل فني درامي؟
– أي عمل فني وإن كان فقرة أو صورة أو قصيدة… إلخ، بإمكانه أن يستوعب فلسفة العالم ويهضمها ويخلق منها خلقاً جديداً. فعدد الحكايات إنما جاء لتتابع العالم الروائي كما بدا لي، وأنا حتى الآن لا أعرف إذا كنت قد نجحت في ذلك أم لا. وكما قلت من قبل ليس للدين علاقة، إنما هي الضرورة الفنية.
> استخدمت (زمن الحكي) بين المضارع والماضي لتضيف تأويلات أخرى ولتمرر معاني بين السطور والدراما… كيف ترى ثنائية (الصنعة والموهبة)؟
– هذه الثنائية تحتاج إلى دراسة مطوَّلة حول العلاقة بينهما، ولنعد إلى حكاية أمي، ما سر تأثري بها إلى هذا الحد؟ ليس حباً في أمي، إنما الحقيقة تكمن في طريقة حكيها، وكيف كانت تغير تعابير وجهها وتبدل نبرات صوتها، كنت أعيش الحكاية وأراها وأرى نفسي في رحلتها نحو المجهول، حتى أنني أخذت أختي بالفعل وقررنا أن نترك المدينة وهو ما أشرت إليه في روايتي «كيس أسود ثقيل». إذن، طريقة العرض هي الأساس، لأنها المتعة والمتعة غاية الفن. الصنعة والموهبة، كلاهما يخدمان الهدف نفسه، المتعة. ولكن الرواية تختلف في تقنياتها عن الحكاية المسموعة، وهنا اللغة، صديقتي الوفية المدللة اللعوب، تلك التي تستعصي علينا حيناً وتحن علينا أحياناً، كيف يمكن ترويضها بـ (الصوت)، من الذي يحكي الرواية، كيف يرى الشخوص من حوله؟ كيف يعبر عن الأحداث؟ إنه الصوت، ذلك البطل الذي يجلس خلف الكاميرات كمخرج سينمائي، يدير كل شيء فيضفي روحه على العمل. على رغم عدم تواجده، إلا أنك تستطيع أن تشم رائحته في كل لقطة فنية. ولأن الكتابة لعبة ممتعة، ولأن اللعبة الصعبة والمركبة والمعقدة دائماً أكثر إمتاعاً، فهي تخرج أكثر ما فينا، كانت الفكرة في أن نجعل من هذا الصوت – الجندي المجهول- بطلاً مؤثراً في الأحداث، فهو البطل الحقيقي ورب الحكايات، وهنا نسترجع الصنعة. وللصنعة أدوات. حكاية ولغة، وللغة نفسها أدوات أيضاً. فعلامات الترقيم مثلاً، في أحيان كثيرة يكون لها دور في جملة، واختيار الزمن أداة، يجب أن يكون لها توظيف محدد وله غرض فني وإلا أصبح نوعاً من التحذلق، وقلنا إننا سنلعب لعبة صعبة، الصوت ينشئ كونه الخاص ويفرض قوانينه، ولكل حكاية طبعها فهو راوٍ عليم متدخل في الفصل المعنون بـ «الدنيا والجنة»، وهو صديق ومرشد وكاتم أسرار «الإنسان البدائي»، وهو الذي يتعامل مع عبده الحلاَّق. وهو الذي ترك الرواية لما كفَر بها وبحكاياته.
> كانت رواية «كيس أسود ثقيل» مجموعة أو متتالية قصصية… لماذا حوَّلتها إلى رواية؟
– هنا، نعود إلى الصنعة ومسؤولية النشر. بعد أن انتهيت من تلك القصص كانت مؤسسة «أخبار اليوم» تعلن عن مسابقة للقصة القصيرة ويشترط 30 قصة، والقصص وقتها وصلت إلى 32 قصة، قلت لنفسي فلتشترك في المسابقة؟ وتقدمت فعلاً، وتم اختيار المجموعة ضمن أفضل عشر قصص. فشعرت أنني أملك نصاً. وأعدت قراءته، فوجدت أن الصنعة تنقصه، والنشر مسؤولية، كانت تلك القصص في حاجة إلى إعادة ترتيب، وفي حاجة لإيجاد صوتين ليرويا القصة، صوت للراوي بعمره الصغير، وصوت للشاب منفصل، واشتغلت عليها، وتم الإعلان عن مسابقة ساويرس، وتقدمت بالرواية التي كانت مجموعة قصصية، وفازت بالجائزة كثاني أفضل عمل روائي، وأعتقد أن هذا دليل على أهمية الصنعة.
> أين أنت من القصة القصيرة؟
– أين القصة القصيرة مني! القصة فن مختلف عن الرواية، لقطة وأنا حياتي كلها مشاريع ضخمة – صحيح هي مشاريع بلا معنى، لكنها ضخمة – ومراحل الكتابة التي أمر بها ليس لها علاقة بالقصة القصيرة، حتى القصص التي كنت قد كتبتها جميعها من عالم واحد مترابط بخيط واضح.
> هل ترى أن الجوائز معيار صادق لجودة العمل؟
– لنقل الكلام النمطي في البداية: بالطبع لا، فالفن نسبي وليس له معايير محددة يمكن من خلالها أن نطلق أحكاماً قاطعة، فالأمر يرجع في هذا الصدد إلى لجنة التحكيم والاتجاه العام للمؤسسة التي ترعى الجائزة. ثم فلننظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة: ماذا تقدم الجوائز للكتَّاب؟ بعض الأموال وحفلة على الفيس بوك. والسؤال: هل نكتب من أجل الجوائز والشهرة؟ لماذا نكتب؟ الكتابة فعل مبهم فعلاً، كأنها تتلبسك، تختارك لا لحياتك الكريمة ومركزك ولكن من أجل معاناتك، فالكاتب كما يقولون يقتات من أوجاعه. أتذكر مقولة لماركيز وهو يحكي: «كم من المعاناة والألم تطلب لتخرج تلك الرواية»، وأتذكر أيضاً كافكا الذي عانى من طفولة بائسة وأب قاس وشباب متهالك بالمرض، متصدع بالفقر… لماذا كتب؟ وكان الأولى به أن يصلح من فقره ويعالج مرضه. لأن الكتابة تتلبسه؟ لأنه كاتب؟ لا أعرف. ولا يهمني لماذا يكتب الكاتب، ولا الجوائز التي حصل عليها، إنما يهمني الفن الذي تركه، بصمته على هذا الكوكب، أنا جئت وعانيت وتركت لك فناً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى